السرد البوليفوني وابعاده الفنية
علوان السلمان
السرد الروائي نتاج معرفي يسجل اللحظات ليحقق عالم تصنعه ستراتيجية فنية تسعى الى تقويض المألوف وتجاوزه عبر المتناقضات وصراعاتها المنتجة لتعدد الرؤى..
وباستحضار النص الروائي(آلهة من دخان) الذي نسجت عوالمه المشهدية (مصطفى البرهان يودع اباه)و(زاهدة البرهان تحفر في جدار الماضي)و(لميعة تندب حظها العاثر)و(جلال سيف الحق يجلد ذاته)و(ما وراء فهد الهزاع)و(مكابدات عبدالرحمن البصير) انامل منتجه الروائي احمد الجنديل ،واسهمت دار ديموزي للطباعة والنشر والتوزيع في نشرها وانتشارها/2020..كون السرد فيه يستمد نبضه من الوجود الاجتماعي باقتناص المعنى الواقعي واعتماد البنيات التكوينية له، متمثلة في..(الحدث والشخصية والفضاء والحوار بشقيه (الموضوعي والذاتي) والزمن السردي والوصف والمنظور ..) بتوظيف الراوي الضمني المتمثل في(الشيخ مصطفى البرهان الذي يعمل تحت غطاء الدين لتحقيق مآربه،وجلال سيف الحق الحاكم المتسلط بما يملكه من وسائل القوة،وشخصية وليد الجواد المنتفض على الواقع بوعيه الفكري..والشيخ الحكيم البعيد عن المطامع الدنيوية..اضافة الى لميعة وزاهدة البرهان..وهناك فهد الهزاع وعبدالرحمن البصير..)وهذه الشخصيات هي التي تمثل بؤرة السرد والصراع المجتمعي ومنطلقه الكاشف عن سرد بوليفوني polyphony متعدد الاصوات لكل صوت رؤيته لمجريات الاحداث(الكل هنا مشغول بأمره يقول فهد الهزاع، مصطفى البرهان يمني نفسه بالفوز على جلال سيف الحق. وزوجتي زاهدة تسعى للحفاظ على مشيختي الرجال والنساء بعد وفاة اخيها عيسى، والحاكم جلال سيف الحق يواصل الليل بالنهار من اجل بقاء الكرسي الجالس عليه، والشيخ الحكيم يواصل مسيرته ويحلق في ملكوت السماء، ووليد الجواد يشحن رؤوس اتباعه بالخطابات الثورية.. وانا لا يهمني في هذه غير لميعة..).. /ص108 ـ ص109.. والتي تتميز بأبعادها الفنية والجمالية والدلالية، اذ تعدد الافكار والتحرر من سلطة الراوي العليم بتوظيف الحوار الموضوعي(حوار الشخوص) مع ابتعاد عن المنظور الاحادي في الاسلوب واللغة ومستوى الوعي، فضلا عن توظيف النص الغائب باعتماد تقنية التناص تضمينا كما في.. (اكون او لا اكون) العبارة التي نطق بها الامير هاملت في المسرحية التي كتبها شكسبير وحملت اسمه) واقتباسا(باسم الله مسراها ومرساها)..
(قبل قليل غادرت روح ابي نحو السماء..كانت الساعة تشير الى الرابعة والنصف فجرا..وجسد ابي الراقد الآن بلا روح جعلني اقف امام امتحان عسير..(ان اكون او لا اكون)..ثلاث ليال مرت وانا اراقب مشهد الاحتضار..كنت اسمع صوت الروح مهزوما..حشرجات تتسكع في صدره بلا انتظام وغرغرة تصعد نحو شفتيه فيخرج القليل منها والبقية ترتد الى صدره ثانية..كان يجاهد من اجل البقاء ولا يريد مغادرة الحياة رغم ان ما يربطه بها اوهن من خيط العنكبوت وقبل قليل قطع هذا الخيط لم يعد قادرا على التحمل وغادرت الروح وسط معركة شرسة صاخبة بين الحياة والموت انتصر الموت فيها ولم يكن امامي غير المجابهة والتحدي والاستبسال في مواجهة ما انا فيه..ولابد من اتخاذ قرارات عاجلة والتصرف بحكمة والعمل على قطع الطريق لكل من تسول له نفسه سرقة المنزلة التي يتمتع بها ابي الراحل..) ص9..
فالنص يتميز بحمولاته الاجتماعية والنفسية واشتغال منتجه(السارد) على تيمات حكائية متعددة داخل نسيجه السردي،فخلق عالما مليئا بالمفارقات المتشابكة التي تقوم على المتناقضات المتصارعة بحركة دينامية بانفتاحها على واقع متعدد الشرائح الاجتماعية،ابتداء من العنوان العلامة السيميائية التي شكلت على مستوى الدال نسقا لغويا بفونيماته الثلاثة التي شكلت جملة اسمية مبنية على علامة اسنادية مسند ومسند اليه(مبتدأ محذوف وخبر وشبه جملة)..شكل عنصرا من عناصر تشكيل الدلالة المتوهجة ونافذة رؤيوية منحت المستهلك(المتلقي) وعيا مضافا بما يحمله من طاقة ايحائية تشده للولوج في عوالم النص وسبر اغواره واستنطاقه من اجل حل شفراته،اضافة الى توغل المنتج(السارد)في بواطن الشخصيات وتحليل مغزى افكارهم وتطلعاتهم محاولا من خلالهم اعتماد تقنية تعدد الأصوات لسلوكيات وظواهر إجتماعية مازالت تعيش فسادا ً في الروح الإنسانية،لذا تحتل الشخصيات موقعا فاعلا في بنية السرد من حيث تعددها وتماسكها وتفاعلها والاحداث ،حتى انها صارت تابعا للحدث او ظلا له..
(قال ابي وقد طغت الفرحة على ملامحه:ستكونين يا لميعة زوجة للشيخ سلمان البرهان.. خرجت شهقة دون ارادتي..عالجها ابي برده:كل بنات المدينة يتمنين الزواج من الشيخ سلمان..
وما دام الاب يريد والام راضية والفرصة متاحة فقد تم سحبي بحبل الطاعة الى بيت الزوجية الذي تتمناه كل بنات المدينة..دخلت مخدع البيت المطاع وسط زغرودة خافتة من امي..لم يكن في استقبالي غير زاهدة البرهان وامها وبعض النساء عرفت فيما بعد ان بعضهن زوجات الشيخ والاخريات صديقات ابنته زاهدة التي قالت مبتسمة:مبارك عليك الزواج..اتمنى ان ينثر الشيخ بركاته عليك دون مشقة..
كانت نظراتي مغروسة في الارض وعندما حان وقت نثر البركات وقع نظري على الناثر المبارك..يمتلك طولا باذخا كرمح بيد رعديد ساعة النزال..ووجها يتناسب طوله مع طول جسده ينضح بالجفاف..وجبهة مرتفعة مزدحمة بالاخاديد..واكثر ما يميزه لحيته البيضاء الطويلة التي منحته شيئا من المفارقة وهي خارجة من سمرته الغامقة..القى تحية الاسلام اثناء دخوله وجلس بقربي وعندما رفع الحجاب قال هامسا:تبارك الله احسن الخالقين..بعدها بدأ بتمارين الاحماء..قام بسياحة حول تضاريس جسدي..مرت اصابعه الطويلة العجفاء على نهدي فشعرت بالغثيان.. جردني من ثيابي فغرقت في وحل الخزي..وعندما خلع سرواله لاحظت ارتعاش ساقيه..وبين ضبابية المشهد وحالة الغثيان ولحظة الخزي سمعته يقول(باسم الله مجراها ومرساها)..وبدأ ينثر بركاته على جسدي ..وبدأ دمي ينثر هزيمته على الفراش..وبدأت الوردة تنثر اوراقها على مستنقع الخذلان..عندها لم اميز بين العرس والمأتم..بين المأساة والملهاة..) ص58 ـ ص59
فالقاص يبني نصه الذي هو حدث تتوافر فيه معايير فنية على المستوى الموضوعي والذاتي على امتداد الهاجس النفسي المشكل للمشهد من خلال تداعي الزمن في الذاكرة مع توظيف الحوار الذي هو (نمط من التواصل القائم على اساس التبادل والتعاقب على الارسال والاستلام) بشقيه الذاتي (المونولوجي) والموضوعي (الواقعي) بسمة مشهدية تعبر عن مظاهر الصراع الفكري،اضافة الى انه يزاوج بين الفضاء المغلق والمفتوح بقصدية التضاد،فضلا عن انه يعمد الى تشظي الحدث مع اضفاء عنصر الادهاش بفضل ما حوته بعض النصوص من الاستبصار والاستشراف لما سيكون،بحكم اكتناز ذاكرته ووعيه الثقافي (الذي هو مجموع ما انصهر في ذهنه من جهد قرائي) يركز على تفاصيل الاحداث والمواقف المتوالدة منها و المتفاعلة مع الشخصية وتاثيرها في توجيه حركية النص وترابط تيماته،حتى انه شكل بؤرة مركزية تجتمع فيها خيوط النص وتمنح نسيجه وحدة موضوعية بلغة انفردت بمستواها التعبيري المتدفق وخصوصية الفاظها الايحائية، التي تعرض افكارا ذات ابعاد نفسية وتنقل قيما انسانية،كون اللغة روح المعنى باعتبار علماء السيميولوجيا ..لذا فاللفظة المكثفة تشكل وظيفة محفزة في استفزاز ذهن المتلقي وفي تكوين مستويات المعنى،فالمنتج(القاص) يبني نصه الذي هو حدث تتوافر فيه معايير فنية على المستوى الموضوعي والذاتي على امتداد الهاجس النفسي المشكل للمشهد من خلال تداعي الزمن في الذاكرة مع توظيف الحوار الذي هو (نمط من التواصل القائم على اساس التبادل والتعاقب على الارسال والاستلام) بشقيه الذاتي (المونولوجي) والموضوعي (الواقعي) بسمة مشهدية تعبر عن مظاهر الصراع الفكري،اضافة الى انه يزاوج بين الفضاء المغلق والمفتوح بقصدية التضاد،فضلا عن انه يعمد الى تشظي الحدث مع اضفاء عنصر الادهاش بفضل ما حوته بعض النصوص من الاستبصار والاستشراف لما سيكون..
وبذلك قدم المنتج(السارد) نصا سرديا سابحا بين عمق الرؤية وجمال التشكيل، مع تنوع البناء السردي القائم على تيمات حكائية منتزعة من الواقع الاجتماعي وصراعاته ،فرسم بذلك فضاء غير محدود وعالما مكتظا بالمفارقات المتشابكة ضمن رؤية فكرية تحققها شخوصه…