الاستقصاء وتراكم الصفات في “حكايات حميمة”

علوان السلمان

 النص السردي، نص الواقع الذي يخلق التساؤلات من خلال نسجه سلم الارتقاء الانساني وتحقيق عوالم الوظيفة الجمالية والدلالة الاجتماعية، وفقا لزخم اللحظة التي تتلبس النص والتي يغلب عليها الطابع الحسي بتوظيف لغة تسير بخطين متداخلين: اولهما الصياغة.. وثانيهما التعبير.

 وبالوقوف على عوالم المجموعة القصصية(حكايات حميمة) التي نسجتها انامل القاص صلاح زنكنة واسهم الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق في نشرها وانتشارها/2020.. كونها نصوص تعبر عن وهج التجربة والتشكيل الادهاشي والمجاز المتخيل بسردية تحمل قدرا من الرؤية، ابتداء من العنوان العلامة السيميائية الدالة والنص الموازي الذي  يحدد المسارات النصية بعنواناتها الفردية والثنائية الالفاظ والتي تشكل بمجموعها عناصر جذب لمعايشة المتن واستنطاق مشاهده السردية والفاظه الرامزة، باعتماد الانزياح المتجاوز والمتمركز على الذات، بفونيميه المشكلان لجملة اسمية تحيل الى معنى جمالي، فضلا عن توكيده التعامل النفسي من جهة والتعامل النصي ببعديه الدلالي والرمزي من جهة اخرى..

(بعد طول انتظار اتفقنا على لقاء في كافتريا الركن الهادئ وذهبت الى الكافتريا قبل نصف ساعة من الموعد وجلست احسب الدقائق والثواني أرقب وصولها، ودوى صوت انفجار قريب من المكان حتى ان الدخان ورائحة البارود قد تسرب الى الكافتريا وبقيت انتظرها اكثر من ساعتين بالرغم من الهرج والمرج الذي صاحب حادث الانفجار ولم تأت، غادرت الكافتريا وانا أغلي حنقا وغضبا وحين وصلت البيت فتحت الحاسوب كي احذف صداقة هذه المرأة اللعوب واحظرها الى الابد، بيد انني وجدت منشورا غريبا على صفحتها المكللة بوشاح الحداد الاسود تحمل صورة طليقتي وتنعى استشهادها (استشهدت اليوم المدرسة الفاضلة بشرى حمد كريم اثر التفجير الاجرامي الـ ……) ص11..

    فالنص يعتمد نزعة سردية وقصدية رامزة مع توظيف عنصر الاستقصاء  وتراكم الصفات التي اسهمت في تصعيد الحدث والكشف عن توتر نفسي للذات المنتجة، فضلا عن انه يحمل رؤية حياتية تجمع ما بين الواقعي والتخييلي عبر مواقف فكرية وانسانية وهو يسبح في عالمين متداخلين(حسي ووجداني) مع تجاوز حدود الزمكانية باعتماد اللحظة السردية التي يحقق نسجها المنتج(القاص) من خلال مشاهده السردية التي شكلت(مغامرة ظرفية في اللحظة الممتلكة لاتقادها الوجداني)..

(كنت أمر بها كل صباح، صديقتي الصغيرة بائعة الجرائد ذات التسع سنين بجديلتها السوداء وقت ذهابي الى مقر عملي القريب من البيت سيرا على القدمين وابتاع منها نسخة من الجريدة وفي اليوم او الايام التي اكون فيها مجازا او منشغلا تحتفظ لي بجرائدي هاشة باشة وهي تردد بفرح طفولي: والله وحشتنا استاذ.. وتقدم لي زهرة حمراء كالعادة حتى اطلقت عليها اسم زهرة التوليب وكانت هي مبتهجة بهذا الاسم..

ـ ماذا تعني زهرة التوليب استاذ؟.. تعني زهرة الحب..

 كان ذلك قبل خمسة عشر عاما، تدرجت في الوظيفة وصرت مديرا لدائرتي، صباح هذا اليوم وضعت سكرتيرتي ذات الجديلة السوداء والتي اهيم بمفاتنها خفية رزمة كبيرة من الجرائد القديمة على مكتبي وعليها زهرة حمراء، سألتها مستغربا: ما كل هذه الجرائد يا أسيل؟

ـ هذه نسختك، لقد احتفظت بها لك منذ خمسة عشر عاما.. صحت مندهشا: أسيل هل انت زهرة التوليب؟ قالت مبتسمة: نعم استاذ، انا بائعة الجرائد ..) / ص70 ـ ص71..

  فالقاص يحاول الامساك بالنسق الحكائي والتوتر الدرامي بلغة حافلة بالمجاز مع تداخل الاحداث، فضلا عن انه يشتغل على استنطاق الكينونة اللفظية عبر علاقة الدال والمدلول لتفعيل الاثر الحسي فينسج نصا يزاوج بين واقع انساني مكتظ بالاغتراب والتأزم النفسي فيستثمر التداعي والتفاصيل اليومية لإضاءة بعض المعالم المعتمة بلغة محكية عبر خطاب الذات ومناخاتها من اجل ايجاد حالة من التوازن والعالم الموضوعي، ومحاولته خلق نص يشتبك والواقع فيقيم علاقة تفاعلية معه بلغة تعتمد التكثيف الصوري والاختزال الجملي مع ضربة اسلوبية ادهاشية وهو يقوم على عالمين مكانيين: أولهما الذاكرة(الذات). وثانيهما: الواقع(الموضوع) ومن هذه الثنائية المتصارعة تتشكل حركة التجاذب والتنافر بلغة تنحو صوب السهل الممتنع.

 (وها انا ابكيك، حلما يراودني وكابوسا يؤرقني، كم ابغي الخلاص منك، لكنني لا امتلك الشجاعة في مغادرة اسوار مملكتك التي ضاقت علي وسلبتني كينونتي، وقديما قال الشاعر ابو الوشاء: ان الحب هو قلة النوم وادمان الفكر واظهار الخشوع واعلان الحنين.. وسأقول كما قال امرؤ القيس:

     أغرك مني ان حبك قاتلي       وانك مهما تأمري القلب يفعل

نعم…احبك واعتقد ان حبي هذا يخدش كبريائي لكنه يزيدك بهاء والقا وفتنة وتبخترا، سأحبك وفق مشيئة قلبي المفتون، وهذا القلب الذي لن يرض بالهزيمة ولا يستسيغ الاستسلام، سأطاوعه واجعله تابعا لمن يهوى ومنتشيا بحماقته، حماقة الوجد..) ص68 ـ ص69..

  فالمنتج (القاص) يقيم علاقات حميمة بين اجزاء النص بجمل مكثفة، مشبعة بالرؤى الدلالية والجمالية، والمشحونة بطاقة التوتر من اجل المحافظة على العاطفة المتمردة على الواقع ببناء فني.. تركيبي يعتمد معمارية متناسقة بين الذات والموضوع بصورة ملائمة للحالة النفسية المستعينة بحقولها الدلالية(زمان ومكان وحدث)..فضلا عن اعتماده تقانة التضمين الشعري كتكنيك فني يوظفه المنتج في البنية النصية لتعزيز فكرته وتوصيلها للمستهلك(المتلقي) بتعبير مكثف الدلالة، مكتنز بالتجربة الحياتية  المعانقة الازمان.

وبذلك قدم المنتج(القاص) نصوصا فيها يمارس حريته في تسجيل اللحظات التي تحددها زاوية الرؤية الذاتية، مع تميزها بعلامتين دالتين: أولهما البنية الدرامية، وثانيهما اللغة المسكونة بأبعادها الرامزة والكاشفة عن عمق المعنى، المنطلقة من ضمير المتكلم (الانا) بوحدة بنائية احتضنت الفعل السردي والاستدلالي والانفعال الشعوري.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة