أرضُ الألغام

Land of Mine

هادي ياسين

ما أن عُرضَ هذا الفيلم في ألمانيا أولَ مرة ( و هو انتاجٌ آلماني دانماركي ـ 2015 ) حتى أثار ضجة ً كبيرةً في العالم ، كونه قد كشف فصلاً غائباً من فصول الحرب العالمية الثانية ، و أماط اللثام عن فضيحة لا إنسانية و لا أخلاقية ، اعتبرها المؤرخون وصمةَ عارٍ لا في جبين الدانمارك حسب بل في جبين الحلفاء أيضاً ، لِما انطوت عليه هذه الفضيحة من خَرقٍ صريحٍ و فاضحٍ لمعاهدة جنيف الدولية التي تنصُّ ببندٍ واضح العبارة على عدم جواز تسخير أسرى الحرب لأي غرض .. مهما كان .

و كان المخرج الدانماركي ” مارتن زاندفيلييت ” شجاعاً حقاً ، و لم يلقِ بالاً للنتائج السلبية ، حين التقط واقعة ً حصلت على الأراضي الدانماركية بعد انكسار الجيش النازي و انسحابه من هذه الأراضي في شهر مايو / ايار من عام 1945 . و تمثلت تلك الواقعة بإجبار الجيش الدانماركي الأسرى الألمان على تفكيك و ازالة نحو مليوني لغم كان الجيش النازي قد زرعها تحت رمال الشواطئ الدانماركية ، فحوّل المخرجُ تلك الواقعةَ الى سيناريو كتبه بنفسه و أخرجه في فيلمٍ أثار تلك الضجة العالمية ، و ترشح لجائزة الأوسكار عن فئة ( أفضل فيلم أجنبي ) للعام 2017 ، ولكن الجائزة ذهبت ، حينها ، الى الفيلم الإيراني ( البائع ) .

و كان المخرج قد صرح بأن هذا الفيلم جاء بعد أن خطرت بباله فكرة البحث عن الجانب المظلم للحرب . و لأن حكاية إجبار الأسرى الألمان على إزالة الألغام هي حكاية ٌ حقيقية ، فقد عمل على تحويلها الى وثيقة سينمائية للتاريخ ، و لأن وثائق الإثبات كانت شحيحة ً جداً فقد اعتمد على نفسه ، حين راح يبحث في سجلات المستشفيات و يزور المقابر و يلتقي المؤرخين المعنيين بتاريخ شواطئ الدانمارك ، و الذين زودوه بملف ضخم من الصور ولكن ليس بالكتب التي توثق تلك الواقعة الشنيعة . يقول المخرج ( لا يوجد كتابٌ واحدٌ كُـتب عن هذا الموضوع ، لذلك شعرتُ بأنه كان موضوعاً لم يرد أحدٌ المساسَ به . ولكن نأمل أن ينشأ الآن جدلٌ حول هذا الموضوع ليخرج لنا كتابُ تاريخ عنه ) .

لذلك فأن المخرج قام بكتابة سيناريو الفيلم بنفسه ، ولكنه تلقى رسائل انتقادات قاسية بلغت حد التهديد ، و يعلق على ذلك بالقول : ( لقد فوجئت ، و لم أعرف كيف أتعامل مع تلك الرسائل و لا بماذا أرد عليها ) و يضيف : ( لقد انتهى بي المطاف الى أن أحذفها جميعاً ، و لم أرد على أيٍّ منها ) .

يبدأ الفيلمُ بسلوكٍ عنصري مقرف يمارسه السيرجنت ( العريف ) ” كارل راسموسن ” ، الذي مثل دوره الممثل الدانماركي ” رولاند مولر ” . هذا العريف كان لا انسانياً في سلوكه ، ولكن من الممكن تفسير هذا السلوك على أنه رد فعل تجاه قسوة الألمان الذين احتلوا بلاده و مارسوا فيها عدوانية ً خرّبوا من خلالها البلاد . غير أننا أمام شخصيةٍ فيلمية ، علينا أن نتعامل معها ضمن حدود الفيلم ، كوننا لا نعرفُ خلفيتها في السياق الإنساني و في سياق الحرب .

ثم تظهر شخصية الضابط الدانماركي ” ايب ويبسون ” ، الذي ينتمي الى ما تُسمى ( القوات الدانماركية الطليعية ) ، و الذي مثل دوره الممثل الدانماركي ” مايكل بو فولسغراد ” ، هذا الضابط يعلن أنه مكلف بتنظيف الدانمارك من مخلفات الحرب ، و هو يعني ( الألغام ) ، و يعلن عن وجود مليونين و مئتي ألف لغم ، على السواحل الدانماركية ، زرعها الألمان المحتلون .

مَن سيرفعُ هذه الألغام ؟

هذا هو مفتاح الفيلم . الأسرى الألمان هم مًن سيُجبرون على القيام بهذا الفعل ، و هذه هي المخالفة الأساسية لمعاهدة جنيف التي تمنعُ تسخير أسرى الحرب لأي غرض كان . و الفيلم يضعنا ـ ضمناً ـ أمام حقيقةٍ مسكوتٌ عنها ، و هي أن الآلمان لم يكونوا وحدهم مجرمي حرب .

سنرى ممارساتٍ فردية في ظلال الحرب ، لا تليق بالظالم ممارستها و لا بالمظلوم تقبلها ، كاستشارة السرجنت كلبَهُ ” أوتو ” فيما إذا كان الشقيقان التوأمان يكذبان أم لا . فثمة أسىً يوجع الروح ، ثمة دموع تنز من القلب قبل العين حين يُحاصَرُ الإنسان في ما لا يليقُ بإنسانيته ، حتى و إن كان في مكان مفتوح الفضاء ، كما في هذا الفيلم ، حيث تتوفر فرصة التفكير بالفرار و الخلاص .. ولكن الى أين ؟

و الفيلمُ يفضحُ ـ أيضاً ـ الجيش النازي ، الذي جنّد الصبيان القاصرين للحرب ، و الذين تم اجبارهم من قبل الدانماركيين ـ لاحقاً ـ على إزالة الألغام و بطريقة بدائية باستخدام قضيب معدني للاستدلال على مكان اللغم و إزاحة الرمل عنه برفق و حذر تامَّين ثم ازاحة زناد التفجير بحذر شديد . هذه المهمة الخطيرة التي أوكلت الى هؤلاء الأولاد جرى تنفيذها بقسوة شديدة على يد السرجنت ” كارل راسموسن ” الذي كان يحنو على كلبه و لا يحنو على هؤلاء الأسرى الصغار الذين باتت أقصى أحلامهم مختصرة ً في العودة الى أهليهم كملاذ آمن بعد كل الذي مروا به و ما شهدوه من هول الحرب و مهانتها ، و هو يخبرهم بأن حقل الألغام التي عليهم إزالتها يضم 45000 لغم ، فاذا أزالوا ستة ً منها كل ساعة فإنه يمكنهم العودة الى ديارهم في غضون ثلاثة أشهر . و علاوةً على قسوة العريف ، فقد كانوا يعانون من سوء التغذية بسبب النقص الذي حصل بعد الحرب ، كما أنهم تعرضوا الى التسمم بفضلات الفئران ، و كان عددهم يتناقص بالموت بين فترة و أخرى . و يبقى هؤلاء الأسرى لمدة يومين بلا طعام ، فيشكو أحدهم لرفاقه أنه لا يستطيع العمل ببطنٍ خاوية ، و عندما يذهب الأسير ” سبستيان ” الى السيرجنت ليبلغه بمعاناة رفاقه من الجوع يجيبه : هل تعتقد بأنني أشعر بالأسى لحالكم ؟ و يضيف بأنه لا يعرف متى يأتي الطعام .. و ( الألمان ليسوا على سلم الأولويات ) ، فأي قهر هذا لفتيان هم أصلاً ضحايا ؟ .. حقاً أن الألمان لم يكونوا وحدهم مجرمي الحرب العالمية الثانية .

تفيد المعلومات أن عدد الجنود الألمان الأسرى الذي اُجبروا على تعطيل و إزالة الألغام قد بلغ أكثر من 2000 أسير ، مات نصفهم بسبب انفجاراتها ، و بطبيعة الحال فأن الفيلم اختصر هذا العدد من الأسرى بأثني عشر أسيراً ، قضى أحدهم في اختبار تفكيك اللغم ، فبقي أحد عشر، هم الذين كانوا تحت أمرة السرجنت ” كارل راسموسين ” كشريحة لهذه الواقعة . و يكشف الفيلم ، من خلال هذه الشريحة ، طبيعة التلاحم الإنساني .. حين يتوحد المصير .

و كانت ألمانيا قد احتلت الدانمارك في التاسع من شهر ابريل / نيسان عام 1940 في وقت قصير ، لغرض احتلال النرويج قبل أن يحتلها الحلفاء فيسدوا على ألمانيا حيز المحيط الأطلسي ، لذلك فأنها زرعت في شواطيء الدانمارك نحو مليوني لغم ، و لم يتم تنظيف تلك الشواطئ منها إلا نهاية عام 2012 .

هذا الفيلم ، جاء متكاملاً بجميع عناصره ، من حيث موضوعه الذي لم يلتقطه أحدٌ من قبل ، و من حيث السيناريو و الإخراج و التصوير و التمثيل و الموسيقى التصويرية و المونتاج .. لذلك نال ثناء الجميع و ترشح للأوسكار .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة