لاجل حصر موضوع علاقة الدولة بالمجتمع، والعوامل التي اثرت على تركيبة المجتمع العراقي، سأعتمد على مفهومين من مفاهيم علم الأجتماع السياسي، وهما:
المجتمع يصنع الدولة والدولة تصنع المجتمع
Society – in- State and State -in- society
إن أغلب المجتمعات الحديثة سارت على طريق أن المجتمع يصنع الدولة، بمعنى أن الدولة تتأسس في ضوء تركيبتها الأجتماعية: طبقات، فئات، مؤسسات اقتصادية وأحزاب سياسية ومنظمات اجتماعية، وغيرها، هذه جميعها تتمثل بهذا الشكل أو ذاك، في طبيعة الدولة وسلطتها الحاكمة. ومن أهم النظريات السياسية التي تتبنى هذا المعيار هي “التعددية” و”الماركسية”. أما أصحاب الاتجاه الثاني، الذي يؤكد تدخل الدولة في بنية المجتمع وتغيرها بالشكل الذي يخدم مصالحها أو مصالح بعض مكوناتها، فتمثلهم نظريات: “الليبرالية الجديدة”، و”نظريات النخبة”، و”مؤسساتية الدولة”. وهناك عدد من النظريات السياسية التي تقف في الوسط بين المفهومين، كما أن بعض التطبيقات الحديثة من هذه النظريات تحركت صوب الجانب الثاني من المفهوم، فتلك التي تؤكد على أن المجتمع يصنع الدولة، تقربت من تلك التي تؤكد أن الدولة تصنع المجتمع، والعكس صحيح أيضاً .
إن دراسة مجتمعات العالم الثالث من الدراسات السوسيولوجية الخاصة والمعقدة، خاصة إذا علمنا اننا نتناول مجتمعات في مرحلة إنتقالية من مجتمعات تقليدية، قديمة الى شكل من اشكال المجتمعات الحديثة. فهي تتشابه في بعض الوجوه مع ماضي المجتمعات الغربية الحديثة، ومن ناحية أخرى تسودها مظاهر المجتمات القديمة الصغيرة. وربما ان اول مظهر من مظاهر هذه المجتمعات هو هذا التضارب والتناقض بين مكونات هذه المجتمعات، حيث يركب الجديد على القديم، وما ان تحين الفرصة حتى ينقض القديم على الجديد، وهكذا. وليست هذه المجتمعات معزولة عن بقية العالم، بل انها في تتأثر بما يجري حولها من تقدم عالمي وتكنولوجي، وربما ان بعضها في وسط هذا العالم السريع التطور.
سنتناول التغيرات التي اصابت المجتمع العراقي من خلال المراحل التالية:
١- نهاية المرحلة العثمانية في العراق (١٨٦٩-١٩١٤)
٢- الحرب العالمية الأولى وتأسيس الدولة العراقية (١٩١٤-١٩٥٨)
٣- قوانين كان لها تأثير في تغيير المجتمع (١٩٥٨-١٩٧٥)
٤- الدولة الريعية (١٩٧٥-٢٠٠٣)
٥- الأحتلال الامريكي وتدهور الدولة العراقية منذ ٢٠٠٣ ولحد الآن
١- نهاية المرحلة العثمانية في العراق (١٨٦٩-١٩١٤):
مع تولي مدحت باشا ولاية بغداد في الفترة مابين ١٨٦٩-١٨٧٢ حتى اصاب العراق مسحة اولى نحو التحديث، فالوالي الجديد كان متأثراً بالغرب وتقدمه. ولا اريد ان اطيل الكلام عن هذه الفترة المعروفة للجميع، سوى ان الوالي مدحت باشا قام بعدد كبير من الإنجازات نجح في بعضها وفشل في البعض الأخر. إلا ان اهم إنجازين له كانتا: خطة تسوية الأراضي و نظام الولاية الجديدة.
وتتلخص فكرة تسوية الاراضي في بيع اراضي صغيرة او واسعة بأقساط سهلة الدفع، على ان تبقى للشارين حرية التصرف بها بشكل تام، لكن الملكية الصرفة تبقى للدولة. وعلى هذا الأساس قامت دوائر الطابو بتسجيل ملكية الاراضي.
اما نظام الولاية فهو يقسم الولاية الى اقسام ادارية ترتبط احداها بالاخرى : ”ففي كل بلدة او قرية، مصنفة بحسب أهمية منطقتها، كان يوجد المتصرف او قائم المقام او مدير السنجق او القضاء او الناحية.
حافظت الامبراطورية العثمانية على تركيبتها الزراعية ماقبل الصناعة طوال الفترة التي حصلت فيها التغيرات الكبرى في اوروبا في القرن القرن الثامن عشر وتحولها نحو الصناعة وبالتالي التقدم والتحديث.
بعض من سلاطين عثمان تأثروا بالتغييرات التي حصلت في أوروبا، خاصة تلك المتعلقة بالمؤسسات الجديدة وتنظيم الجيش والأقتصاد والمجتمع وغيرها. ان اهم البلدان التي تاثرت بها الامبراطورية العثمانية هي فرنسا (بعد الثورة الفرنسية ١٧٨٩، وصعود نابليون وحروبه وغيرها) وكذلك روسيا في فترة القيصر بطرس الاكبر). وانعكست هذه على بعض السلاطين ولكن بصورة متقطعة، فهناك البعض منهم من أيد وانبهر في التغيير وهناك الذي رفضه، وهكذا تم تأثر بعض الولات بالغرب من الذين حكموا في اطراف الامبراطورية، ومنهم مدحت باشا.
وربما ان اهم سلطان اهتم بالتغيرات الاوروبية وتحديث الامبراطورية هو السلطان محمود الثاني (١٧٨٥-١٨٣٩)، والذي نصب سلطاناً في الفترة (١٨٠٨-١٨٣٩). وسمي ”بالسلطان الملحد“، كما سمي ”ببطرس الأكبر التركي“. اهتم كثيراً بالتنظيم الاداري وتنظيم الجيش والمؤسسات وعرفت مرحلته بـ“التنظيمات“ Tanzimat= reorganization، كما اهتم بتقليد الغرب من حيث المؤسسات ونظام القصور الملكية، والحياة اليومية، والموسيقى، وغيرها التي كانت تعتبر من المحرمات في ذلك الوقت، وربما هذه كانت تعتبر اولى بوادر التحديث في تركيا. وفي فترته كان قد تم نهاية حكم المماليك في العراق، عندما تم إقصاء الوالي داود باشا في ١٨٣١، كما حل الفيلق الانكشاري في ١٨٢٦.
ورغم ذلك لم تبتعد الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر، عن دول العصور الوسطى من حيث مؤسساتها الادارية، ونظامها الاقتصادي، وتنظيمها الاجتماعي، التي تشير جميعها الى دول ماقبل الحداثة. وبقي اعتماد الدولة العثمانية على الضرائب التي كانت تأخذ من المزارعين او غيرهم، وإختلفت طرق جمع الضرائب بحسب الولايات العثمانية، فمثلاً في الموصل كان المزارعين يدفعون بنصف حصادهم كضريبة العشر، ويدفع رجال القبائل ضريبة على اساس عدد الخيام او عدد القطعان التي يملكونها. وبقي الخلاف على دفع الضرائب احدى اهم مظاهر النزاعات بين القبائل والحكومة طوال فترة الحكم العثماني.
بقي العراق طوال الحكم العثماني مرتع للقبائل العربية التي كانت تهاجر الى العراق من الجزيرة العربية. وبقيت اغلب هذه العشائر بدوية تنتقل من مكان الى اخر بحثاً للقوت والغزو، وحتى تلك التي استقرت بالزراعة ما تلبث ان تعود الى البداوة بسبب الصراعات والحروب مع القبائل الأخرى ، او بسبب فيضان الأنهر، أو بسبب ملوحة الأرض او الهروب من الضرائب المفروضة على المزارعين وغيرها.
ولم تهتم الدولة العثمانية بترويض القبائل ودمجها في المجتمع بقدر اهتمامها بجمع الضرائب منها، التي كانت تؤدي في الغالب الى القصاص من القبائل التي تتهرب من دفع الضريبة. وهكذا استمر القتال بين القبائل لأسباب تتعلق بنفوذ بعضها على الاخريات، وكذلك القتال ضد قوى الأمن المحلية والجيش النظامي.
تم إلغاء السلطنة العثمانية بعد نجاح الضباط الشباب الأتراك في إنقلابهم على السلطة عام ١٩٠٨، وجرى تكريس للقومية التركية من خلال سياسة التتريك، ثم بعدها بسنوات معدودة دخلت تركيا الحرب الى جانب المانيا والنمسا ضد الحلف البريطاني الفرنسي والروسي.
٢- الحرب العالمية الأولى وتأسيس الدولة العراقية (١٩١٤-١٩٥٨)
لم تمض سوى ايام معدودات على بداية الحرب العالمية الأولى حتى احتلت بريطانيا البصرة في نهاية عام ١٩١٤، التي كانت تعتبر محطة استراتيجية لربط الهند بالخليج ومن ثم بالشرق العربي. وشجعت اخفاقات الجيش العثماني في الرد على القوات البريطانية في التقدم نحو القرنة ومن ثم الاستعجال نحو بغداد، بعد ان تكبدت القوات البريطانية بخسائر كبيرة في الكوت، واخيراً تم احتلال بغداد في عام ١٩١٧، ثم انتهت الحرب في عام ١٩١٨. لكن المثير هو موقف العشائر خلال فترة الحرب، فمرة تقف عشائر مع البريطانيين ضد العثمانيين، ومرة اخرى يجري العكس، وقد تبدل عشيرة موقفها من البريطانيين الى العثمانيين والعكس ايضاً.
وتعتبر الفترة بين نهاية الحرب واعلان الأنتداب على العراق في عام ١٩٢١، من الفترات المهمة في تاريخ العراق. ففي البداية كان يبدو ان بريطانيا كانت تريد ضم العراق بشكل استعمار مباشر، كما حصل للهند، وهذا ما كانت تؤكد عليه الأدارة البريطانية في الهند. لكن خروج روسيا من الحرب في بداية عام ١٩١٨، ودخول الولايات المتحدة للحرب بدلاً عنها، بدل الكثير من المواقف المتعلقة بالمستعمرات في ذلك الحين. فرئيس الولايات المتحدة ويدرو ويلسن Woodrow Wilson ، كان متأثراً بفكرة حق الأمم بتقرير مصيرها، لم يكن يرضى بالإستعمار المباشر بل كان يهمه حصول المستعمرات على استقلالها، وذلك لما فيه من فائدة للولايات المتحدة من خلال التجارة الحرة مع هذه البلدان، كما حصل بين كثير من الأمم حسب مبادئ معاهدة ويستفيلي Westphalian principles في ١٦٤٨، التي اعتمدت السلام على اساس الدولة- الأمة. وهكذا كمساومة بين الولايات المتحدة والبلدان الاوروبية بخصوص المستعمرات الجديدة، جرى أبتداع فكرة الأنتداب، على اساس ان هذه المستعمرات غير ناضجة بعد للإستقلال، فينبغي تأهيلها من خلال ربطها بالدول المتقدمة لغاية حصولها على الاستقلال. وكان العراق بالطبع من حصة بريطانيا. لم يكن الأنتداب مفهوماً لغالبية الشعب العراقي، الذي بقي مطالباً بالإستقلال الكامل.
لم تكن فكرة بريطانيا من الحاق العراق بها واضحة في البداية، فيما يخص انشاء دولة ينتظم الأفراد فيها في مؤسسات حديثة، أو ان يتم الحكم فيها من خلال العشائر وشيوخها؟ لكنهم في النهاية اضطروا الى الآبقاء على الخيارين، فمن خلال قوانين ١٩٣٢-١٩٣٣ تحول رؤساء القبائل من الأوصياء على الأراضي بشكل تعاوني، والخاضعة لحيازة العشيرة، إلى طبقة كبار ملاك الارض، مستغلين عمل أفراد عشائرهم في الأرض، وبهذا تم تخلص بريطانيا من استخدام سلاح الجو لمقاتلة العشائر الثائرة، ومن ثم أصبحت تدريجياً طبقة كبار ملاك الأراضي، الطبقة السياسية الأساسية التي اعتمد عليها النظام الملكي حتى عام ١٩٥٨. اما في المدن فقد تم تأسيس مؤسسات حديثة تنظم عمل الأفراد وشؤونهم.
وتشرح أديث بيرنوز مسألة توزيع للأراضي الزراعية على شيوخ العشائر وتجار المدن بالشكل التالي: ”وبصورة عامة فقد كانت الاراضي تزرع من قبل الفلاحون الأجراء الذين يستوفى منهم مالك الأرض حصة كبيرة مقابل ايجارها لهم. وكان كثير من ملاك الأراضي يعيشون في المدن ولا يهتمون كثيراً بالأرض، في حين كان الفلاحون المستأجرون يفتقرون الى الطمأنينة بسبب عدم تملكهم للأرض، عدا عن كونهم فقراء جداً. وعلى العموم فلم يكن لهم دافع قوي للعمل في الارض أو تحسين أساليب الزراعة لديهم. وكانت الحراثة في غالبية اقسام العراق تتم بالطرق البدائية وأداتها خشبة توضع على رأسها قطعة حادة الرأس من الحديد وتسحبها الحيوانات، وكانت البذور تنثر باليد، وكان الحصاد يتم مثلما عليه في العصور القديمة. ولكن بدأت بعص الآلات الزراعية تظهر وخاصة في المنطقة الديمية في الشمال وفي مناطق الري سيحياً ايضاً. وفي أكثر الحالات كان نصف الأرض يترك بوراً ليستعيد خصوبته، ولم تكن الزراعة الصيفية مستمرة على الدوام”.
لقد تأخر ظهور طبقة صناعية في العراق بسبب ان إيجار الأرض والتجارة كانت تجلب ارباح سريعة ومضمونة، فكان توجه اغلب المستثمرين لمثل هذه النشاطات الاقتصادية وابتعادها عن مخاطر التنمية الصناعية.