لبابة السر
بين الواقع والاسطورة
محمود خيون
قلائل هم الكتاب والشعراء في العالم العربي والغربي الذين استطاعوا الجمع مابين الواقع و التأريخ والاسطورة….كون ان الخوض في مثل مغامرة ليس من السهل الخروج منها بنتائج مثمرة وكما يريد لها الكاتب أو الروائي أو الشاعر… لأن جادة التوصيف هنا والدوبلاح الفني واللغوي يجب أن يكون حالة راقية لاتشبه التوصيف العادي للاشياء والمرئيات الاي تحتاج إلى سرد ممل وثقيل لشخوصها… ورصد دقيق لتحركات كل فرد منهم وإجراء عملية المقارنة للجميع أى العودة إلى الماضي ودمجه بالحاضر من خلال حرفية ومهنية قل نظيرها لدى من يريد الدخول إلى هذا المعترك المخيف والمليء بالمفاجات والمفارقات المثيرة ولعلنا نتذكر كيف أدرك ماركيز أن يضع اللعبة بين يدي القارىء العادي لروايته( مئة عام من العزلة ) حتى استطاع ومهنية عالية إجراء معالجات فنية في البناء القصصي لاتشبه اخرياتها عند من سبقوه في التحربة والكتابة والرواية التي تحاكي إشكالية من حولها كما يحاكي الفنان لوحاته التجريدية الاي تتحدث عن الإنسان وضياعاته في عالم غير متناه ولايخضع لقواعد معينة ومحددة كما كانت الآلهة في السابق وكهنتها ترسم للناس حدود الحرية الاي يمكن لهم التحرك ضمن مساحاتها حتى ولو كانت في أضيق الحدود…..فالقارىء لمثل هذه الأعمال الكبيرة يظل في حيرة من أمره يفسر ما يقرأ على مستوى فهمه ودرايته….وقد قرأت الكثير من الانتقادات الاي وجهت الى ماركيز بشأن ما يريد طرحه من الفكرة العجيبة الاي غلفت الجوانب السردية لمحتوى الرواية فمنهم من فسرها بأنها نهاية العالم كما يتحدث البعض من الدارسين أو عامة الناس بأنها تشبه إلى حد ما حكاية (عودة غودو) ليملا الأرض عدلا بعد أن ملأت فسقا وجورا….. وهنا يكمن الإبداع بأبهى صوره وأشكاله ليعبر عن روح القضية التي يتحدث عنها الكاتب بجراة وبسالة وشجاعة ومن دون خوف من سطوة المتنفذين والمتسلطين على رقاب الناس….. وإزاء ذلك كان لابد أن يلجأ البعض من الكتاب والشعراء الى عوالم الأسطورة ودمجها بالواقع المعاش عن طريق التعبير عن هواجس ومخاوف سواه من الناس ينتقيهم من الحياة أو من الأسطورة والتأريخ على حد سواء…… ان الذي يتمعن في (لبابة السر) للروائي والناقد شوقي كريم يرى إنه اتجه نحو الأسطورة ليجعل منها أداة للتعبير عن رموز تتحدث وتتحرك بكل حرية وجعل من تأريخ بابل القديم و عراقية سومر وأكد وأور وكيش ومن أساطيرها وحيا ومنهحا دافقا بالحيوية والنشاط لما يريد التعبير عنه…. فمثلا نجد شوقي تارة يروح الى الغربة داخل نفسه وتارة أخرى يصر على أن ( صعب ان يظل مثلي جالسا بين أركان انهدامه )..ويضيف ( وكن كيف ومتى وأين وقلبي ينشد الى حبال من المآسي الماجنة أتفحص إستمرار خطوي وما أن تمتلا حنجرتي بالهذيان حتى تراني أهمس لاوجاعي مستنجدا..ولكن ليس ثمة من يسمع همس فتى يحترق بالسؤال..فتى ذات يوم كان صبي معلم يكتب حكايات الأزمنة الغابرة فوجد نفسه ودون تنبيه يسقط وسط هوة الفراغ والعذاب )… وعندما يصحو من سرحانه ويخفت وقع ذلك الصوت الشجي الذي يملأ الفضاء من حوله ينتفض على كل جائحة تريد تغرز حوافرها في رمل غربته فيصرخ( ماتعلمت أن أصغي وأكتب وأرى ونفسي تمور بالاحقاد والدم ) ثم يردف( الإصغاء سلام..الرؤيا فعل سلام فكيف أجد نفسي في معبد السلام والحياة تدوس كل معابد السلام ). …من هنا نرى أن الكاتب قد انحرف كثيرا عما كان عليه وكشف عن الكم الهائل من الغيظ الدفين على كل شيء من حوله بعد أن تلطخت زهور روضه بلون الدماء وغادرتها حبات الندى الطرية.. فهو إذن يعبر عن واقع عاش فيه بأنواع العذابات ورأى بأم عينيه كيف يصلب الناس على ألواح من الحديد وليس كما صلب المسيح على لوح من الخشب…..فيتبادر الى ذهنه السؤال( هل حقا أن النفس التي تواجه الموت تسترجع كل أيامها؟؟!). …وتلك هي أقصى لحظات تمر على المرء أن هو أقترب من حافة الموت وارتسمت علامات النهاية في آخر الأفق…… وقبل ذلك كان شوقي يحاكي سيده الذي ما يزال يرن صوته في اذنيه( هكذا أنت دوما تعبت خطاك وعرفت مايمتلا به رأسك….كم تشبه أباك شوقيا…)…ثم يعاود ذلك النشيح الروحي الذي مافتيء يراوده ويشدد عليه حصاره الأبدي وكأنه يستعيد ذاكرة الحرب والدمار التي قضت على كل شيء جميل لديه وفرقت بينه وبين من يحب ليؤكد له بأنه كان يذكره بكل ماضية حدثت وظل اوارها قائما الى اللحظة الواردة في فكره ووجدانه الآن فيردف( كان ينادمني ما أن يجن الليل وتهدأ أوارات الموت ويبتعد شبح الحرب قليلا نسند ظهرينا الى جذع نخلة رطبة. )….ثم يعيد عليه ذات السؤال المحير الذي لطالما شاغله ليال طويلة من ليالي الشتاء الباردة والداكنة( هل حقا إن النفس التي تواجه الموت تسترحع كل أيامها أو يريد الموت إعلان هزيمتي الآن..)…. وهنا يتبين عند القارىء والدارس والأكاديمي البارع أن ذاكرة الحرب والدمار مازالت قائمة بكل مفاصلها وحقبها الزمنية بل وحتى أماكنها عند حافات السواتر الامامية وأصوات القذائف وألسنة النيرن وهدير الطائرات المعادية والصديقة أنها تعود بكل تفاصيلها الى حقبة زمنية من أيام الحرب اللعينة إستطاع الكاتب شوقي كريم ان يولفها على شكل اسطورة من أساطير بابل وملوكها وصعاليكها الذين هدروا كرامة الإنسان ومزقوا ذاته وبنو الحواجز الشائكة بينه وبين كبريائه فصار كالعبد المأجور يبني ويعمر حتى يتباهى الطغاة بجمالية ذلك البناء وأعدوه حضارة ستفخر بها الأجيال من بعدهم.
وهنا يعيدنا الكاتب شوقي كريم إلى ذلك العصر الذهبي _ سيدي نبونيد _..لاتكثر من ايلام بابل.. لا ترم امالك فوق اكتافها المدمات…لآ أرى غير الصراخ والمواجع لا أرى غير زمن مفتول وفارس ترجل عنوة مضمخ بالبلوى…… ثم يواصل هذا النداء.. لاتكثر سيدي فلا لوم يفيد ولا بكاء…ولاأظن لبابل عودة بعد كبوتها هذه……كل ما يحيط بها شرور تتزايد….وتتزايد ونيران تشتعل وشتات.. ) …. ومن هنا تتضخ الرؤيا لدي كقاريء غير مهتم بما يكتب من ملاحم عما أصاب البلاد من ويلات … ودمار ان الكاتب كان يريد أن يلوذ بين بطون الأساطير وينغمر بتيارات التأريخ المتشعبة ليصف حالة الحرب واللاحرب التي خاض الناس غمارها رغم أنوفهم وخسروا الكثير الكثير…..وينكشف الامر أكثر عندما يعاود((شوقيا )) الحديث فيتساءل( لا ادري لم تذكرت الملك الامجد نبوخذ نصر.. لا أدري ماذا تعني لي كلمة شتات كل شيء محمول على محامل الفوضى والانهزام…شوارع كانت يوما مزحزمة بالتمجيد فغدت فجأة تسبح بخطوات راكضة باحثة عن بوابة تأوي خوفها فقيات البيوت ساكنيها وغدت الخطوات سيرها باتجاه مدن عفنة لاتدري لأهل بابل السكن مع اناس لايدرون جذورهم….)…..ثم يأتي هنا عاصف جديد يتألق به الكاتب عندما يتساءل..( محنة سيدي أن تتكأ الى شجرة منخورة الجذع…)……ومن هنا نستطيع القول بأن شوقي كريم أصبح هو بمثابة الوريث الوحيد والشرعي لكل ما حصل من ويلات وحكايا عن العذابات والخلود للزمن البابلي ولجبروت نبوخذ نصر ولجميع ابطال الأساطير من ذلك الزمن المجيد الذي ظل خالدا بشخوصه وماتركوا لنا من مأس وويلات وانتصارات ربما تكون أشبه بالوهم أو ضروب من الخيال أو أنها كانت حكايات كتب لها التأريخ أن تكون هي الدليل الشاخص وعلى مر الدهور بين أعين القاصدين لامجاد عريقة غدت اليوم هياكل منخورة لاحياة فيها لأنها بنيت على الظلم والجور وسلطة الطغاة والالهة والمماليك وكلها تريد أن تمسخ صورة الإنسان التي صورها الله بأحلى أشكال الروعة والفن……ولكن هذا الامر لم يكن له مذاق لمن يريد أن يكون متسلطا على رقاب الآدميين وكما وصفها الباحث الاستاذ جاسم الخالدي( أنها لبابة السر محاولة لمغادرة الواقع والغوص في الأزمان السحيقة إذ عاش الإنسان تحت الآلهة وكهنتها المشغوفين بالحياة الباذخة )…..وانا اقول أن هذا الامر لم يقف عند بوابات الكهوف الوثنية للالهة وكهنتها بل تعدى لأن تتلبس تلك التعاوييذ ملوك ذاك الزمان والأزمنة التي تلتها فعاد الظلم والجور وهتكت حرمة الناس بكل اصنافهم ودياناتهم….. وإني لاجزم بأن شوقي كريم كان منهكا حد الإعياء في وضع النهايات الأخيرة لهذه الملحمة الكبرى أو الأسطورة التي ليس من السهل الولوج في عوالمها الخفية والظاهرة ففي كل مرة أراه يعود ليسفح قلبه وروحه على الورق بالقول( وحيدين نبقى نطارد سموم الصباحات التي لا بد وأن تجيء ونحن ندور…وندور ولا منفذ للخلاص شوقيا )…..اما وقد قاربت هذه الخطابات على نهاياتها فلابد لي أن احيي أخي وزميلي الروائي الكبير شوقي كريم على هذا المنجز الرائع الذي جاء بمستوى كبير من البناء الفني للرواية العراقية والعربية والعالمية ويعد من الأعمال الكبيرة التي تجمع وبتماسك كبير بين الأسطورة والواقع وكما أبدع من قبل ماركيز في مئة عام من العزلة وتسانس جيبور جيبو في رائعته الساعة الخامسة والعشرون وهمبرت همبرت ومارك توين وغيرهم من عشاق الأساطير وما خلفته من حكايا تثير الدهشه والغرابة لماهية الإنسان الحقيقية وقدرته على التنوع في الظلم والعدالة……ومن رايي أن ( لبابة السر ) ستبقى محور نقاش مفتوح وتفسيرات كثيرة لجمع كبير من النقاد والدارسين والباحثين للوصول إلى الهدف الحقيقي والمرحو من كتابة هكذا أعمال كبيرة ستظل خالدة الى الأبد وعلامة مضيئة في تأريخ الأدب العراقي والعربي على حد سواء