Operation Finale
هادي ياسين
انتهت الحرب العالمية الثانية ـ في الخامس عشر من شهر أغسطس / آب عام 1945 ـ بسقوط العاصمة الألمانية برلين ، التي كانت مهد تلك الحرب ، و ذلك بعد ثلاثة أشهر و نصف الشهر من تاريخ انتحار مؤجّجها « أدولف هتلر « في 30 أبريل / نيسان من العام نفسه . « هتلر « هو نفسُهُ مؤسسُ ( النازية ) العنصرية التي كان هدفُها الأساس السيطرةَ على أوروبا ، و بالتالي على العالم . و قد خلّفت حربُهُ ما بين خمسين مليوناً و خمسة و ثمانين مليوناً من القتلى العسكريين و المدنيين ، عدا الضحايا المعوقين و المشردين و المرضى نفسياً و المنتحرين بعد الحرب ، و عدا التدمير الكبير الذي لحق بالمدن في الدول التي شهدت معارك هذه الحرب الطاحنة . و كان الحلفاء قد أعلنوا في ( إعلان موسكو ) ، عام 1943 ، عن نيتهم تقديم القادة النازيين ـ الذين تسببوا بكل هذه المآسي ـ الى المحاكمة بعد انتهاء الحرب . و فعلاً ، أقيمت هذه المحكمة ، أقيمت في مدينة ( نورنبرغ ) في مقاطعة ( بافاريا ) الآلمانية . و قد بدأت أولى جلساتها في 20 أكتوبر / تشرين الأول من عام 1945 و انتهت في 1 أكتوبر / تشرين الأول من العام التالي 1946 . و كانت المحاكمة قد قُسمت الى مرحلتين ، شملت المرحلة الأولى الضباطَ النازيين المسؤولين عن جرائم الحرب ، فيما شملت المرحلةُ الثانية الأطباءَ الموالين الذين أجروا التجاربَ على البشر . تفاوتت أحكام محكمة ( نورنبرغ ) بين الإعدام و السجن مدى الحياة و السجن لأعوام متفاوتة و البراءة . لكن هناك عدداً من النازيين كان قد تجنب المحاكمة أو أحكامها ، فحذا حذو زعيمه « هتلر « .. فانتحر ، منهم :
- « هاينرش هملر» . انتحر في 23 مايو / ايار 1945 ، بعد أن وقع في قبضة القوات البريطانية . و كان يُعد الساعدَ الأيمن لـ « هتلر « ، و هو أشرس النازيين في محق الشيوعيين و اليهود و الغجر ( حفاظاً على العرق الآري ) ، و كان يحمل أعلى رتبة لضابط نازي يقع في الأسر .
- « جوزيف غوبلز « ، مدير الدعاية النازية الشهير ، انتحر في 23 مايو / ايار 1945 مع زوجته و أطفاله الستة ( الذين تتراوح أعمارهم بين 4 و 11 سنة).
- « هيرمان غورينغ « ، أحد أبرز القيادات النازية ، استسلم للقوات الأمريكية في النمسا ، بتاريخ 9 ابريل / نيسان عام 1945 ، و كان يحمل أعلى رتبة لضابط نازي يُحاكم في ( نورنبرغ ) . حُكم عليه بالإعدام ، ولكنه انتحر قبل يوم واحد من تنفيذ الحكم به .
- « مارتن بورمان « حُكم عليه غيابياً بالإعدام ، ولكنه كان قد انتحر في 2 مايو/ ايار 1945 ، و تناقلت عنه الأقوال بأنه يتنقل في بعضٍ من دول أمريكا اللاتينية .. حتى عُثر على بقايا عظامه عام 1972 .
ثمة نازيون آخرون اختفت آثارهم ، و لم تُعرف مصائرُهم ، ولكن بعد أن قامت دولة إسرائيل ، إثرَ لململة العالم لآلامه و جراحه ، بدأ اليهود بالبحث عن قادة إبادتِهِم ، أولئك الذين اختفوا في ثنايا العالم و أخاديد المدن البعيدة و زوايا القرى و منحنيات البلدات النائية المنسية . تلك كانت مهمة أبناء و أحفاد ضحايا ما سُمّيَ بالـ ( هولوكوست ) ، المهمة التي نظمها و وضع خططها و أدار برنامجها جهاز الـ ( موساد ) الإسرائيلي ، و الذي نفذ خطة مخابراتية نوعية في العالم ، حين عثر ـ عام 1960 ـ على أهم ضباط الهولوكوست النازيين متماهياً في الأرجنتين ، ليتم خطفه الى إسرائيل و إخضاعه للمحاكمة ، هو « أدولف آيخمان « . و ذلك هو موضوع فيلم ( مهمة نهائية Operation Finale ) ـ إنتاج 2018 .
موضوع فيلم ( مهمة نهائية ) ليس جديداً في تناول قضية القاء القبض على « أدولف آيخمان « ، فقد ظهر ـ في العام 1996 ـ فيلم بعنوان ( الرجل الذي قبض على آيخمان ) من بطولة « أرليس هوارد « و» روبرت دوفال «. و كلا الفيلمين ينطويان على عنصر التشويق ، غير أن فيلم ( مهمة نهائية ) يوثق ( سينمائياً ) كيفية تنفيذ عملية مخابراتية دولية على درجة عالية من الدقة بطرق مخابراتية شبه بدائية أوائل الستينيات من القرن العشرين . و يعتمد على واقعة حقيقية سمح السيناريو لنفسه أن يضفي عليها نكهته السينمائية ، حين جعل دراما الفيلم تقدم الأجواء السياسية و الأمنية في الأرجنتين كما لو كانت مشحونة ضد اليهود ، و بمناسبة العيد الوطني في الذكرى المئة و الخمسين لإستقلالها عن الإستعمار الإسباني ، و جعل اكتشاف وجود الضابط النازي المطلوب « أدولف آيخمان « يتم عن طريق ابنه الذي يصادق فتاةً يهوديةً تعرّف عليها عَرَضاً في صالة عرض فيلم سينمائي ، فيلتقي أباها الضرير ، فيفشي له بسر خطير بأنه إبن « آيخمان « . من هذه النقطة تنطلق الـ ( موساد ) في البحث عن طريدتها الأخيرة ( آيخمان ) . كما أن من تحويرات السيناريو في دراما الأحداث ، جعلُ من خدّر « آيخمان « هي الطبيبة ( هانا ) التي مثلت دورها الفرنسية « ميلاني لوران « المولودة عام 1983 ، و نالت شهرتها عام 2009 عن دورها في فيلم ( أوغاد مجهولون ) ـ بطولة براد بيت ـ في حين أن مَن خدّر « آيخمان « كان ـ في الواقع ـ طبيباً رجلاً و ليس امرأة . كما أن « بيتر مالكين « ـ في الواقع ـ لم يبقَ في المطار الأرجنتيني ـ كما ظهر في الفيلم ـ متخلفاً عن رفاقه الذين أخذوا « آيخمان « الى اسرائيل حيث خضع لمحاكمة قضائية بنَفَسٍ ( يهودي ) . هذه كلها كانت إضافات و تغييرات لتضفي على القصة طابعاً درامياً تشويقياً و نكهة سينمائية .
يتقاسم الحضورَ في الفيلم ممثلان : - الممثل الإنجليزي المخضرم سير « بن كنغسلي « ، في دور « آيخمان « ، و هو الممثل القدير الحائز على جائزة الأوسكار عام 1982 كأفضل ممثل ، عن تمثيله شخصية الزعيم الهندي « غاندي « ، في فيلم ( غاندي ) ، و هو من اخراج « ريتشارد اتنبره « . و كما هي العادة ، فإن « بن كنغسلي « منح الفيلم سمعةً من حيث قيمته السينمائية ، فهو ممثل ذو حضور طاغٍ في معظم أفلامه .
- الممثل ـ النجم الصاعد « أوسكار ايساك / ـ إسحاق ـ « المولود عام 1980 في غواتيمالا . و هو الذي مثل في الفيلم دور ضابط الـ ( موساد ) « بيتر تسفي مالكين « المولود في بولندا في 27 مايو / ايار 1927 و المتوفى في 1 مارس / آذار 2005 في نيويورك ، و يعتبر « بيتر « اسطورةً في التخطيط و التنفيذ و التفاني لصالح اسرائيل و قيادة العمليات ، خلال 27 عاماً من عمله في الموساد . و كانت صحيفة ( معاريف ) الإسرائيلية قد وصفته عام 1989 بأنه ( واحد من أعظم الشخصيات على الإطلاق في تاريخ الموساد ) و قد ظهر في الفيلم باعتباره العنصر الأبرز و الأكثر ديناميكيةً في فريق اختطاف « أدولف آيخمان « .
كانت عائلة « بيتر « ـ كما في الواقع ـ قد هربت الى فلسطين عام 1936 ، بعد أن قُتلت شقيقته « فروما « و أطفالها الثلاثة مع 150 يهودياً لم يفلتوا من المحرقة . و لأكثر من مرة في الفيلم يظهر طيف « فروما « أمام « بيتر « ، فحتى بعد محاكمة « آيخمان « في اسرائيل ، يظهر طيفُها و هي تقبّله بامتنان لأنه انتقم لها من قاتلها ، و كأنه قام باختطافة و جلبه للمحاكمة من أجل ذكرى أخته و ليس من أجل شعبه اليهودي . و عندما يتذكر « بيتر « شقيقته و أطفالها الثلاثة ينسى أنه قتل الملازم « دالتون « في النمسا عام 1954 ، بناءً على معلومات خاطئة ، و ترك أرملةً وديعة و طفلين صغيرين ، يطل أحدهما من النافذة .. شاهداً على جريمة قتل أبيه ، كما يظهر ذلك في بداية الفيلم .
الفيلم من إخراج « كريس فايتز « ، المولود في نيويورك عام 1969 ، و كتب السيناريو له « ماثيو أورتون « اعتماداً على كتاب ( آيخمان بين يدَي ) الذي كتبه ضابط الموساد « بيتر تسفي مالكين « نفسه . و يبدو أن الضابط المؤلف للكتاب كان منصفاً في وصف شخصية « آيخمان « . فبعد بضع حقائق ، واجه « بيتر « « آيخمان « بها اعترف الأخير بأنه « آيخمان « الحقيقي الذي يبحثون عنه ، ما يعني أن الرجل كان واقعياً و قد أدرك أنه وقع بين فكي كماشة لا يمكنه أن يفلت منها . و حتى لو أراد « بيتر « أن يُظهر نفسَهُ ـ في الكتاب ـ على أنه كان ذكياً في محاصرة « آيخمان « و دفعه الى الإعتراف ، فإنه يعترف ضمناً بذكاء « آيخمان « الذي أدرك الحقيقة و لم يشأ أن يماطل في حيز اللاجدوى .. فاختصر الوقت و تجنب لاجدوى المماطلة فاعترف بأنه « آيخمان « حقاً . معظم المَشاهد التي ظهر فيها « آيخمان « كانت مع « بيتر « ، في غرفة ( الإعتراف ) ، و فيها ظهر « آيخمان « ـ من خلال الحوارات ـ كشخصيةٍ حاذقة ، ذكية ، مناورة ، حذرة .. ما يقدم تفسيراً ضمنياً لكيفية صعوده من شابٍ عاطل عن العمل في النمسا الى الدخول ـ صدفة ً ـ في الحزب النازي ، ثم التدرج ـ درجةً إثرَ درجة ـ حتى بلوغ المركز بالغ الأهمية في أكبر جيوش العالم ابان الحرب العالمية الثانية . ينتهي الفيلمُ بمحاكمة « آيخمان « في اسرائيل ، و سط تشفّي اليهود به ، و يظهر على الشاشة ( سبتايتل ) يفيد بأنه ( في 1 يونيو 1962 شُنق « ادولف آيخمان « إذ أُدين بنقل الملايين الى حتفهم . أحرقت جثته في فرن بُني خصيصاً له ، و ذُرّ رمادُه في البحر .. كي لا يجد ملاذاً للراحة ) . ولكن ما لايذكره الفيلم هو أن « آيخمان « ، بعد أن صدر بحقه حكمُ الإعدام ، فاجأ الجميع بأنه يريد الإنتماء الى الديانة اليهودية ، و عندما سُئل عن السبب قال أنه لا يجيب إلا أمام الصحافة و وكالات الأنباء العالمية في مؤتمر صحفي علني . و أول ما فعله في بدء المؤتمر هو أداؤه التحية النازية . و عندما نطلع على أفكار المنظّرة السياسية اليهودية الآلمانية ـ الأمريكية « هانا آرنت « بخصوص محاكمة « آيخمان « سنجد أنها كانت إنتقاماً مُعّدٌ له سَلفاً ، و حسب وصف « آرنت « فأنها كانت مسرحية لصالح « بن غوريون « .. رئيس وزراء إسرائيل في ذلك الوقت .