المحطة الأخيرة THE LAST STATION
هادي ياسين
مطلع الثمانينيات ، التقيتُ الفنان العالمي الشهير ” أنتوني كوين ” الذي كان في زيارة الى بغداد ، صحبة الفنان الراحل ” مصطفى العقاد ” . و في ذلك اللقاء سألت ” كوين ” عمّا اذا كانت في باله شخصية ٌ ما ، يتوق الى تمثيلها لكنه لم يفعلْ ذلك بعد ، فأجابني أنه يتوق الى تمثيل شخصية صديقه الكاتب الشهير ” أرنست همنغواي ” و كذلك شخصية ” بيكاسو ” . لكنه أضاف : أنه يعشق ( شخصية عظيمة ) يتمنى أن يمثلها .. تلك هي شخصية الكاتب الروسي الشهير ” تولستوي ” ، غير أن ” أنتوني كوين ” أوضح لي أنه ينتظر أن يتقدّم به العمرُ كي يكون قريباً من هذه الشخصية .. شكلاً و نضجاً .
في ذلك العام كان الفنان في الخامسة و الستين من عمره ، غير أنه توفي في العام 2001 عن 86 عاماً دون أن يمثل دور تلك الشخصية الروسية العظيمة ، ولكن جاء العام 2009 ليبدأ ” مايكل هوفمان ” بإخراج فيلمه الجميل المسبوك ( المحطة الأخيرة ) الذي يلقي الضوءَ على السنتين الأخيرتين من حياة ” تولستوي ” ، و التي انتهت بوفاته في محطة صغيرة للقطار . و هذا الفيلم ـ المصنوع بمهارة ـ يتناول طبيعة علاقة الكاتب الشهير بزوجته ” صوفيا ” ، و هي علاقة ٌ اتسمت بالإحتدام الحاد ، على الرغم من الحب الكبير الذي ربط الأثنين طَوال حياتِهما الزوجية التي استمرت ثمانية ً و أربعين عاماً .
و اذ رَحلَ ” انتوني كوين ” .. و لم تتحقق رغبته في تمثيل شخصية ” تولستوي ” ، فأن المخرج ” مايكل هوفمان ” وجَد ضالته في الممثل الكندي المخضرم ” كريستوفر بلومير ” ، الذي رُشح في العام 2010 لجائزة الأوسكار عن دوره المميز في هذا الفيلم ( المحطة لأخيرة ) ، فيما أسند دور ” صوفيا ” ـ زوجة ” تولستوي ” ـ الى الممثلة البريطانية ” هيلين ميرين ” و التي رُشحت للأوسكار ، عن دورها في هذا الفيلم أيضاً . و كان المخرج قد رشح ـ أولاً ـ الممثلَين البارعَين ” أنتوني هوبكنز ” و ” ميريل ستريب ” لهذين الدورين . ولكن ” هوبكنز ” انشغل بفيلم آخر ، فيما فضلت ” ستريب ” دورها في فيلم ( جولي و جوليا ) الذي رُشحت عنه للأوسكار كذلك .
و جاء فيلم ( المحطة الأخيرة ) كجزء من الإهتمام العالمي بالذكرى المئوية لوفاة ” تولستوي ” ، في العشرين من نوفمبر 2010 ، حيث بدأت الإستعدادات منذ بداية العام بإصدار طبعات جديدة في عدة دول لروايته الشهيرة ( آنا كارنينا ) ، كما تم ترميمُ فيلم ( بالأبيض والأسود ) كان قد تم العثور عليه في الأرشيف الروسي ، و يظهر فيه ” تولستوي ” ممتطياً فرسه ، أو و هو يداعب كلبه . كذلك اُقيمت عدة معارض لأعماله الأدبية و للكتب التي تناولت سيرته و أدبه و فلسفته و فكره .. إذ كان ” تولستوي ” مفكراً و فيلسوفاً اجتماعياً من طراز خاص ، و هو الذي تأثر بأفكارِهِ ، لاحقاً ، كلٌّ من ” غانـدي ” و ” مارتن لـوثر كنغ ” و سـواهما .
يـُعطي سيناريو الفيلم دوراً كبيراً لـ ” صوفيا ” التي كانت قد ( دوّخت ) الكاتبَ ـ كما هو معروفٌ ـ خلال السنتين الأخيرتين من حياته ، و باتت العنوانَ البارزَ لصخب و اضطراب هذه الفترة ، التي كانت قبل ذلك مفعمة ً بالسلام و بغزارة الإنتاج الأدبي . فقد بات ” تولستوي ” ، خلال هاتين السنتين ، يوسّع من سماحته و روحه الفائضة بالمحبة تجاه الآخرين ، الأمر الذي راح بموجبه يعامل شغيلته من الفلاحين و العمال ، في ضيعته ، كجزء من عائلته الخاصة ، و ليس العائلة الإنسانية حسب . و هذا الأمر هو الذي راح يثير حفيظة ” صوفيا ” و غضبها ، فباتت تتوجس خوفاً حقيقياً من أن تشمل وصيـّتــُهُ هؤلاء ( الغرباء ) ، و هي التي أنجبت له ثلاثة عشر طفلاً خلال الثمانية و أربعين عاماً التي عاشتها معه كزوجة مخلصة ، و واكبت ولادة أعماله الأدبية الشهيرة ، و ساعدته ليس في توفير المناخ الملائم لإنجازها حسب بل في تدوينها و حفظها أيضاً ، فقد قامت ـ مثلاً ـ باستنساخ روايته الشهيرة الضخمة ( الحرب و السلام ) ست مرات .
و ثمة نقطة أساسية لم يغفلها الفيلم .. فـ ” صوفيا ” تصغر ” تولستوي ” بنحو ستة عشر عاماً ، و من هذه النقطة تبدأ اللقطاتُ الأولى من مشهد تظهر فيه الزوجة ُ بثيابها البيضاء و بكامل زينتها لتدلف الى سرير زوجها العجوز ، في إيماءة الى رغبتها في أن يُشبع لها غريزتـَها ، ولكنها تصطدم ببروده و عدم اهتمامه بهذا الأمر الغريزي الإنساني الخطير ، مما يشكل أحدَ عوامل حنقها على الحال الذي آلت اليه الأمور . ولكن ، ربما كان من الطبيعي جداً أن تحنق هذه المرأة بسبب هذ الأمر . غير أن حنقها لم يعد الى هذا السبب وحده ، بل أن ثمة هواجس اخرى باتت تسيطر عليها ، و قد تمثلت في خوفها من أن تفقد ثروته و حقوق مؤلفاته ، الأمر الذي جعل أمر وصيته ـ التي علمت أنها قد اُعدت في غفلة منها ـ بمثابة كابوس بات يحكم كل تصرفاتها ، و هو ما يدفعها الى أن تصرخ في وجه زوجها ذات يوم بالقول : ( حسناً ، سأذهب الى المحطة .. و اُلقي بنفسي تحت عجلات القطار ) .. و تضيف : ( و ستكون السيدة تولستوي هي : ” آنا كارنينا ” ) ، في إشارة الى بطلة روايته الشهيرة التي تحمل هذا الإسم ، غير أنها لم تــُلق بنفسها تحت عجلات القطار بل تحت عجلات مزيد من التمسك بـ ” تولستوي ” ، و بطريقة ظهرت فيها كعـِبءٍ ثقيلٍ عليه ، بالرغم من أنه ظل متمسكاً بحبها .. و يقول لها ذات مرة : ( لم أتوقف عن حبك طوال حياتي معك .. ولكن الله وحده يعلم كم أنك جعلت ذلك صعباً ) . و يقرر أمامها ـ حاسماً ـ : ( اذا لم استطع أن أعمل و أن أجد السلام .. فإنني سأمضي بعيداً ) . و فعلاً نفـّذ الكاتبُ وعيدَه ذات ليلة حين غادر منزله الكبير في غفلة منها ، و وقـّع وصيته في الغابة دون علمها .. و رحل ، و لم يتواصل الاّ مع ابنته ” ساشا ” ( آن ـ ماري داف ) عبر خطاباتٍ يرسلها اليها من المحطات ، و لا يعلم بهذه الخطابات سوى سكرتيره ( فالنتين بولغاكوف ) الذي لعب دوره ـ ببراعة فائقة ـ الممثل ” جيمس ماكفوي ” ، حتى يصل الخطاب الأخير الذي يُعلمْهما أن صحة تولستوي في خطر ، و هو في محطة قرية ( استابو ) للقطار . ولكن ” صوفيا ” التي كانت قد علمت بالأمر متأخرة تلحق به أيضاً ، و هناك وجدت حشداً كبيراً من مراسلي الصحف العالمية ، و هم يتابعون ـ لحظة ً بلحظة ـ صحة الكاتب الأشهر في العالم . غير أنها تـُـمنع من مقابلة زوجها و تـُعزل عنه و تـُعامل كشخصٍ غير مرغوبٍ بوجوده ، فيما تتحرق هي لملاقاته ، و لم يـُسمح لها برؤيته إلا في الساعة الأخيرة من حياته .
عندما غادر تولستوي منزله ، يظهر في مشهد و هو يتأمل المنزل ، ثم يتقدم خطواتٍ ، فيسجد على الأرض ـ مقبـّلاً إياها ـ فيسأله سكرتيره : ( هل تنوي أن تعود ؟ ) فيجيبه ” تولستوي ” : ( لقد تركتُ هذه الحياةَ خلفي الآن ) .
فعلاً ، كان الموتُ قد أسدل ستارَه على ” تولستوي ” في محطة القطار الصغيرة ، هارباً من صراعه النفسي مع ” صوفيا ” التي تبعته طالبةً منه الغفران . لكن المخرج يقدم لنا مشاهد من الدراما العميقة في الدقائق الأخيرة من الفيلم ، لا تترك أثراً لدى المُشاهد حسب بل تترسخ في ذاكرته كمَشاهدَ سينمائية لا تُنسى .
في المشهد الأخير من الفيلم ، يظهر طبيبُ الكاتب الخاص أمام حشد الصحفيين ، المرابطين في المحطة ، ليُعلن لهم ـ و من خلالهم للعالم ـ : ( عشر دقائق بعد السادسة من هذا الصباح .. غادرت روحٌ عظيمة ٌ عالَمَنا : ليف نيكولايفش تولستوي ) .. حقاً كان روحاً عظيمة لن يأتي الزمان بمثلها أبداً .