عبد اللطيف الراشد.. كوابيس العزلة والصعلكة في مخطوطة نزق

جلال حسن

تعرفت على الشاعر عبد اللطيف الراشد حين كنت بائعا للكتب على رصيف شارع  المتنبي قبالة مقهى الشابندر أيام الحصار عام 1998، وكان عبد اللطيف يجلب معه مجموعة من الكتب ويرميها فوق كتبي، ويقول: سأذهب الى ماما ام حيدر لكي أستلم ثمن الفطور، ولم أكن أعرف وقتها أن ماما أم حيدر هي الكاتبة والصحفية عالية طالب التي كانت تدرك حجم معاناته وجوعه. فتعطيه ثمن الفطور حين كان الوضع الاقتصادي صعبا للغاية، وهذه معاناة عامة تكابد  فيها الأكثرية في ضائقة مالية يؤطرها العوز والفقر، فثمن لفة فلافل بائسة واستكان شاي معادلة قاسية في التكافل بين الأصدقاء وتحديدا الأدباء منهم، وكان عبد اللطيف الراشد  يزدري من كل شيء ولا يهتم لأي شيء، إلا أنه كان يعتني أيما اعتناء بخط كتاباته الصحفية وأشعاره ويرسم الحروف على الورق بشكل جميل للغاية كأنها لوحات مرسومة بعناية فائقة،

مرة، كان عبد اللطيف الراشد يقف بيني وبين المترجم حسين حسن في شارع الرشيد من بداية شارع المتنبي في صيف تموز ساخن من عام 2003، وحدث ان دبابة أمريكية دخلت من جهة تمثال الرصافي، وفوق برجها ضابط  يلقي التحية على المارة، وحين اقتربتْ الدبابة من مكان وقوفنا رفع الضابط يديه للسلام، فما كان من عبد اللطيف إلا أن يرد التحية، فنظرنا أنا والمترجم الشاعر حسين حسن اليه بغضب، كأننا نريد ان نفترسه بنظرات استنكار وشزر وامتعاض، فرد عبد اللطيف ببرود وعفوية قائلاً: لم أصافح الأعداء، أنه خطأ الرومان، بس خويه تره السلام لله.

كنت ألتقي به بلا موعد في فندق رائد الذي يقع في منطقة الميدان محلة البارودية خلف مصرف الرافدين جوار باعة بطاقات اليانصيب ومحلات بيع الخمور في منتصف دربونة يواجهها مقهى صغيرة يبيع أفضل شاي بالعالم يخدره على الفحم، وأكثر المرتشفين لهذا الشاي المذهل يشربون أكثر من استكان وبعضهم يطلب من الجايجي ان لا يغسل الاستكان للمرة الثانية لكي يبقى نفس المذاق.

 في يوم حزين حكي ليّ عبد اللطيف عن ما يشعر به من اعراض المرض الذي استفحل عليه وجعل حياته لا تطاق، وطلب مني أن أذهب معه الى طبيب جراح لكي يخلصه من معاناته، وأنه لا يملك المال الكافي لفحص الطبيب، لكن دبر المبلغ، وأخبره الطبيب بضرورة الإسراع بإجراء عملية جراحية مستعجلة، وعلى أثرها دخل مستشفى الحيدري ” زايد” حاليا، لكنه لم يجري العملية.

 وفي تلك الفترة انتقل عبد اللطيف الى فندق أكثر بؤسا بجانب الحيدرخانه قبالة فندق الشمال، فكنت أزوره مع الراحل الشاعر سليم السامرائي الذي كان يتحدث معه بالتخلص من حياة الفنادق والذهاب الى عائلته في قضاء المحمودية، لكن الراشد لم يكترث للحديث لأنه يعشق بغداد ويعتبرها ملهمته وسر عشقه، ولا يفارق اتحاد الأدباء والكتاب مساء كل يوم، لذا يعتبر لحظات وجوده في الاتحاد خلاص مؤقت من الوجع،

ولم أذكر يوما أن عبد اللطيف كان عدوانياً من أجل غرض سيء رغم مشاكساته الكثيرة وخطبه الرنانة، دائما كان باسماً ويحاول أن ينال رضا الجميع على الرغم من سكره الذي يصل الى الثمالة، لذلك حظي بمحبة خاصة عند الأدباء والأصدقاء حتى صار البعض يطلق عليه صفة الحمامة، وتكبر هذه الصفة الى الحميمية بينه والأصدقاء، فكان يصغي بهدوء ويضحك بصوت عال حين يصفه المرحوم سليم السامرائي بقوله: يا عبد اللطيف الراشد،  أنت لا لطيف ولا راشد.!؟

مرة قلت له: يا لطيف أشعارك جميلة عليك أن تجمعها في ديوان لأنك تمتلك مملكة شعرية جميلة ومدهشة، وقدرة رائعة على الوصف ونسج الصور، فقال: أمنيتي أن أصدر ديوانا شعريا، ولكن الناقد الدكتور حسين سرمك حسن لا يقتنع بأشعاري.!

قلت له: ربما يأتي يوم ويقتنع الدكتور حسين سرمك بشعرك، والرجل لا يكره أحداً، لكنك تعكر صفوه بملحتك الزائدة، لذلك لا يقتنع بشعرك لان مواصفات الشاعر بذهنه لا تتصورها. ضحك ملء شدقيه وقال: عندي ديوان شعر بعنوان نزق سوف اصدره قريبا وأهدي النسخة الاولى منه الى دكتور حسين سرمك. وبالفعل طبع مخطوطة نزق بطريقة الاستنساخ، وبعدد محدود من النسخ نتيجة لتكاليف الطبع آنذاك، ووزعها على كثير من المقربين له.

 كانت أمنية عبد اللطيف أن يعيش حياة جديدة بعد ان تعرف على امرأة  طرحتْ عليه فكرة الزواج وكان هائما بها ويحكي عن مشاعرها وحنانها ويكتب لها رسائل وقصائد لكنه  لم يكمل المشوار لان حياته عبارة عن مفارقات وعوز ومعاناة واحباطات قاسية.

وفي أخر لقاء معه في شارع المتنبي وجدته مهموما وحزيناً ويمشي بخطى ثقيلة ويتجعد على وجهه هدوء يشيء الى الصمت، صمت مليء بالصراخ والاحتجاج على حقيقة مرة، وهذه آخر مرة أرى فيها عبد اللطيف الراشد، وأخفي دمعة كبيرة  بلا وداع  على رحيله الذي صادف تعطيل كافة الصحف في ذلك اليوم الحزين الذي صادف 15/12/ 2005

***

نماذج من قصائد الشاعر في ( نزق ):

قصائد للوطن الغالي

…………………

بلادي.. يا قرة العين

ما يطرب القلب رصاص سوى الناي

ولا يكتب الشعر سواي

**

انت الابجدية الاولى

ذاكرتي.. كوخ الملمات

كوخ الشاكرية… وشم الامهات

بدرية والليالي الماطرات

صفير القطار في الكرخ يطربي

بلادي صحن مزار… مطر

صيحة مأذنة

استريحي رويداً

رأسك مرفوعا بحجم الارض

وغبار الحروب ليس غبارا

خمسون من العمر مرت

ويدي في يديك

لا يغريني موج البحر

ولا فلك سواك

**

فاجأتك العواصف يا وطني

والشظايا والثعالب… والرصاص

**

الرمال قاتلت

والنار على رمالك صارت رمادا

البصرة كانت شاهدة هناك

وجرح تطهر بماء الفرات

**

كل المدافع تعطبت

كل العواصف تعبت

واخرس ازيز الطائرات

احلام الطغاة صارت مأتما

وانت باق بظهرك

تغسل وجه الارض يا وطني

العراق.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة