محمد زكي ابراهيم
مازال هاجس التغيير يداعب أحلام النخبويين العرب، ويشغل بال الكثيرين منهم. لكنهم مثل سواهم من جيل النصف الثاني من القرن العشرين، يرون بلدانهم بعيون أجنبية. ويعتقدون أن التراث العربي التقليدي يمنعهم من الانخراط في مغامرة الحداثة، وأن مجموعة المفاهيم والتصورات والقيم التي جاء بها اكتسبت صفة الثبات المطلق، وفقدت صلتها مع الحياة الجديدة. ويميل بعضهم للقول أن الشعوب العربية تعيش بعقليات قديمة. وأن الماضي يزحف على الحاضر ويهيمن عليه هيمنة مطلقة.
هؤلاء المهووسون بالفلسفة، يعتقدون أن الجمود الذي تعانيه مجتمعاتهم، كامن في المفاهيم العقلية فحسب، إذا صلحت صلح ما سواها. وإذا انهارت انهار ما سواها. مع أن مشكلة البلاد العربية لا علاقة لها بسلطة التراث، الذي هو في الأصل نتاج حضارة سابقة وعظيمة.
إن ما تحتاجه هذه البلاد هي التقنية التي تقودها إلى تطوير الإنتاج، وإدارة الموارد بمهنية صارمة وانضباط عال. وليس أي شئ آخر. فالشعوب الآسيوية التي غدت الآن نموراً اقتصادية كبرى لم تتخل عن تراثها، وأديانها، وتعاليم حكمائها الأقدمين. ولم تعتنق أفكاراً أوربية دخيلة. بل إنها حاربتها وواجهتها في أكثر من مكان ودولة. فلم يعرف عن اليابان التي ماتزال تؤمن بالإمبراطور الإله أنها تقدمت بفضل نظريات سياسية أو فلسفية مثلاً. بل إنها وضعت حواجز أمامها مدة قرنين ونصف، انتهت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وقامت باستيراد التقنيات الصناعية من الغرب لتكون النواة الأولى للنهضة.
كما أن الصين لم تتقدم بفضل النظرية الماركسية التي تبنتها منذ عام 1949، واتخذت منها مرجعاً اقتصادياً مدة ثلاثة عقود. بل إنها فعلت ذلك حينما طرحتها جانباً، وفتحت الباب على مصراعيه للرأسمال الأجنبي والاستثمارات الخارجية. وغدت دولة “آسيوية” في المقام الأول. والأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة وآخرها التجربة الإيرانية.
إن تطوير القطاع الزراعي لا يحتاج إلى القطيعة مع التراث كي ينهض من كبوته بل يحتاج إلى آلات وعدد ورؤوس أموال. وكذلك فإن القطاع الصناعي لا يحتاج إلى غزو ثقافي ليكون قادراً على التطور بل إلى بناء ورش صغيرة ومتوسطة مثلما فعلت تايوان وسنغافورة وتايلند، كرستها جميعاً لتقليد واستنساخ السلع الأوربية.
وقد يعجب المرء حينما يعلم أن الحضارة الغربية لم تعلن القطيعة مع الماضي، بل بنت هياكلها على صخرته. فالعلمانية والليبرالية والرأسمالية وحتى الماركسية استمدت أفكارها من نظرية وحدة الوجود التي آمنت بها المسيحية والأديان الآسيوية القديمة. وفكرتها قائمة على حلول الحقيقة المطلقة في الكائن الفرد.
ربما لم يكتشف المفكرون العرب بعد أنهم ليسوا بحاجة لإدخال أفكار جديدة، بقدر حاجتهم إلى إدخال خطوط إنتاجية جديدة. فالمكائن والآلات هي وحدها القادرة على تغيير ذهن الفرد ودفعه نحو خوض مغامرة الحداثة. وكان عليهم أن يتواضعوا قليلاً ويعلنوا أنهم في واد والحقيقة في واد آخر.