أنطون تشيخوف الطبيب: عندما يكون الحجر الصحي ترفًا

عماد الدين رائف

يستغل بعض الكتاب والأدباء فترات العزل أو الحجر الصحيين كي يزيدوا من إنتاجهم. منهم من يغوص في أكداس الكتب، التي تنتظر سنوات وقتها للقراءة، بعضهم يعكف على إنهاء مشاريع بحث أو كتابة كان قد بدأها ثم أهملها تحت وطأة متطلبات الحياة اليومية، لكنه يجد متسعًا من الوقت الملائم لها متى ما انعدمت الحياة الاجتماعية وبات رهين غرفة أو غرفتين.

إلا أن ذلك ليس قاعدة وعكسه كذلك، فالمزاج يلعب دورًا حاسمًا، والضغط النفسي يزيد من حدة العزل، وقد يخرج كاتب بلا شيء. لكن في المقابل، يغدو العزل نفسه بنظر البعض ترفًا لا يُنال، وتلك كانت الحال مع القاص الروسي أنطون تشيخوف، الذي كان قدره أن يكون طبيبًا، لا يعفى من العمل أيام الأوبئة والجوائح.
ولد أنطون تشيخوف في أسرة صاحب متجر بقالة متواضع، في بلدة تاغانروغ، الواقعة جنوب روسيا القيصرية، سنة 1860، وبعد ربع قرن باتت قصصه محل إعجاب الكتاب والنقاد، وفتحت أمامه أبواب الشهرة الأدبية، فنشر على صفحات كبريات الصحف، وفاز بجائزة بوشكين للكتابة القصصية… وكان الهدف من وراء النشر الحصول على بدل مادي ولو قليل كي يؤمن احتياجاته من جهة، وكي يعين عائلته من جهة أخرى. بطبيعة الحال، كانت طريقه لتغدو شاقة لو بقي في بلدته النائية، لكن درب العلم حملته إلى موسكو، التي قصدها ليدرس الطب. يقول في رسالة له إلى عمه ميخائيل، في 31 كانون الثاني/ يناير 1885: “أحرزُ تقدمًا في مهنة الطبّ شيئاً فشيئاً. أعاين المرضى بشكل مستمر. أنفق روبلاً واحداً على المواصلات. لديّ العديد من الأصدقاء، بالتالي لدي العديد من المرضى، لكن عليّ أن أعالج نصفهم من دون أي مقابل، أما الآخرون فيدفعون لي أربعة أو خمسة في مقابل الكشف الصحي الواحد. يمكنني أن أخبرك، من دون قلق، أنني لم أغد غنيًا بعد، وأنا بحاجة إلى وقت طويل لتحقيق ذلك، لكنني أتدبر أموري، ولا أحتاج شيئًا، وطالما أنا على قيد الحياة ستكون عائلتي بخير على الصعيد المالي. ابتعت أثاثًا جديدًا، واستأجرت بيانو بحالة جيدة، وعندي خادمان.
أقيم أحيانًا بعض الحفلات المسائية التي تعزف فيها الموسيقى ويرافقها الغناء. لا ديون عليّ الآن ولا أنوي أن أقترض من أحد شيئًا. منذ فترة ليست بعيدة، كنت أشتري اللحوم والبقالة على دفتر الديون، إلا أن ذلك الزمن قد ولى، وبتّ أدفع نقدًا مقابل جميع مشترياتي. أما الحال في المقبل من الأيام فلا يمكن التكهن بها، وهكذا، ليس هناك ما أشكو منه.
في الميدان

يقول تشيخوف في رسالة إلى الناشر ألكسي سيرغييفيتش سوفورين (1834 – 1912)، في رسالة مؤرخة في 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 1889، أرسلها من موسكو: “أؤمن، بطيب خاطر، بزديكاور (البروفيسور نيقولاي فيودوروفيتش زديكاور. 1815 – 1897)، الذي كان قد تنبأ بالكوليرا. كان هذا الرجل العجوز من ذوي الخبرة. أنا أرتجف مقدمًا الآن.. فبعد كل شيء، خلال تفشي الكوليرا، لن يحصل واحدنا على الكثير، ولن يكون نصيبنا مثل نصيب شقيقنا أسكيليبوس (إله الطب في الميثولوجيا الإغريقية). سيعلنون الأحكام العرفية في روسيا، وسيلبسوننا الزي العسكري، وسيرسلوننا إلى أماكن الحجر الصحي لنعمل… سنقول وداعًا لسهرات ليالي السبت، وللفتيات وللمجد.

وكان قد تناقش مع سوفورين بشأن الأوضاع الصحية في بلاده، يقول في رسالة مؤرخة في 17 كانون الثاني/ يناير: “أسيأتي الطاعون إلينا كذلك أم لا؟ لا يمكنني أن أقول شيئًا محددًا. إن تفشى الطاعون، لن يكون مخيفًا كثيرًا، ذلك لأن السكان والأطباء معًا، اعتادوا منذ فترة طويلة على الموت القسري والزيادة في أعداد الوفيات، جراء الخانوق والتيفوئيد. نحن، حتى من دون الطاعون، بالكاد يعيش عندنا أربعمئة طفل من كل ألف، حتى سن الخامسة. وفي القرى والبلدات، وفي المشاغل والشوارع الخلفية، لن تجد أي امرأة بصحة سليمة. سيكون الطاعون رهيبًا، بحيث سيظهر بعد شهرين أو ثلاثة أشهر بعد التعداد السكاني العام، وسيفسر الناس الطاعون على طريقتهم، سيهاجمون الأطباء، وسينقلون العدوى إلى الآخرين. وبالنتيجة يحصل الأسياد (الإقطاعيون) على المزيد من الأراضي. الحجر الصحي غير جاد. يمنحنا لقاح هافكين (عالم الأوبئة فلاديمير أندروفيتش هافكين. 1860 – 1930) بعض الأمل، لكن للأسف، لا يحظى هافكين بشعبية في روسيا، كما يقال: على المسيحيين أن يحذروا منه لأنه يهودي.”

أما كيف كانت حاله أثناء تفشي الوباء في روسيا، فلم ينتظر طويلا إذ اجتاح البلاد وباء الكوليرا واصطحب معه مجاعة (1891 – 1892)، فأودت هذه الجائحة بملايين الأرواح، يقول في رسالة بتاريخ 16 تموز/ يوليو 1892 إلى صديقته المقربة المغنية والممثلة ليديا ستاخييفنا ميزينوفا (1870 – 1939): “لا يمكنني المغادرة إلى أي مكان. لقد عيّنوني بالفعل طبيبَ كوليرا في أراض المقاطعة، من دون راتب. ما هو مطلوب مني عمله أكثر من طاقتي. أجول مسافرًا بين القرى والمصانع وأتحدث عن الكوليرا هناك. غدا لدي مؤتمر صحي في سيربوخوف. أنا أحتقر الكوليرا، لكنني مضطر إلى أن أخاف منها كالآخرين. بطبيعة الحال لا وقت لدي للتفكير في الأدب. متعب أنا ومنزعج بطريقة جهنمية. لا مال لدي، ولا يوجد وقت، ولا حتى مزاج لكسب المال. الكلاب تنبح بعنف، هذا يعني أنني سأموت بالكوليرا… أعطوني 25 قرية لأعالج سكانها، ولم يعطوني مساعدا واحدًا. لن أتمكن وحدي من فعل ذلك، سأبدو مثل أحمق كبير. تعالي إلينا، ستضربيني جنبا إلى جنب مع الفلاحين.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة