التمنهج ما بعد النقدي: غياب الرؤى والتباس التمرس

د. نادية هناوي

غالبا ما نجد تفاوتاً في الممارسة ما بعد النقدية بأشكالها المختلفة، والسبب هو غياب الرؤيا المنهجية الموجهة لعمل الناقد والتباس حدود تعاطيه معها نظراً لتعدد صيغها وتضاد اشتغالاتها اصطلاحا وتنظيرا. وهذا ما يتطلب ضبط الجهاز الاصطلاحي من جانب ويستدعي من جانب آخر التعيين الإجرائي الموظف في ممارسة نقد النقد عبر اعتماد محددات منهجية وطروحات رؤيوية توحد الفعالية ما بعد النقدية وتوجهها مخرجة إياها من الحيز الإشكالي إلى الفضاء التخصصي، وبما يضمن لهذه الفعالية الديمومة ويمنحها السيرورة والنماء بعيداً عن التشتت والتعارض والاختلاف.
وإذا أردنا وضع تصور رؤيوي يقارب المنطلقات العملية في ممارسة ما بعد النقد، فإن لا مناص من الابتداء رؤيويا من الفلسفة ثم الانتقال منهجيا إلى المناهج النقدية الحداثية وما بعد الحداثية بمعطياتها الجمالية والادبية والثقافية المتحصلة من الحفر الاركيولوجي أو الرصد الجينالوجي أو التتبع البيداغوجي وبالشكل الذي يسهم في الظفر بمحصلات نقدية جديدة وأصيلة.
وبوجود المنهج لن تغدو الممارسة ما بعد النقدية مجرد كلام على كلام ـ وهو الطاغي على الغالب من الكتابات التي يسمها أصحابها بأنها ما بعد نقدية ـ وإنما سيكون كلاماً عن العقل النقدي في حضوره الإنساني ساعة محاورته وبما يغني الطرف المحاور ويسمح بإنتاج مقروئية جديدة هي نفسها ستقبل التحاور والجدال، اغناءً لعوالم أدبية ونقدية واستيعاباً لمعطيات تستجد في أوانها أو اشتمالاً على تحولات ومتغيرات يفرضها أحد الطرفين المتجادلين على الآخر أو يتفقان عليها.
وما وسمُ منهج ما بأنه ما بعد نقدي إلا كتعبير عن إستراتيجية قرائية ومقصدية مسبقة تقوم على ربط فعل القراءة بعمليات تحديد الدلالات والعلامات وبما يجعل التخمين القرائي ـ شرحا وتفسيرا وتأويلا ـ مفتوحا وبذلك تتوالى القراءات وتتعدد إلى ما لا نهاية، سواء أكان النص النقدي المدروس كتاباً مستقلاً أم كان دراسة قائمة بنفسها أم مقالة أم تصديراً لترجمة أم تحاوراً حول مسألة ما.
ولا يعني التمنهج ما بعد النقدي قطعية القواعد وثبوتية المعطيات؛ إنما هو الإيمان بالحدود بين النقد وما بعد النقد مع إدراك واعٍ أن استقلال كل واحد منهما عن الآخر على مستوى المنهجيات يفترض حتما وقصدا وجود تواصل إبداعي مستمر وبهذا يتم تأصيل الخطاب فيصبح موصوفا بأنه خطاب إنتاجي وكتابة عن كتابة هدفها إعادة منتجة ما تمت منتجته سابقا.
وما هذا التفاوت في الاشتغال على نقد النصوص النقدية المترجمة والتصدير لها؛ إلا إثبات لشكل آخر من أشكال غياب الرؤيا المنهجية لـ( ما بعد النقد) والتباس حدود التمرس فيه وتعدد اشكالياته وتضاد اشتغالاته كمصطلح ونظرية. وتكاد أغلب التصديرات الترجمية تجمع على إتباع منهجية جامعة بين الفنية والوصفية والتاريخية كأن تقوم على تلخيص فكرة الكتاب النقدي المترجم والتعريف بمؤلفه، كما في التصدير لكتاب( النقد الادبي ومدارسه الحديثة) أو يتعرض التصدير لقيمة الكتاب النقدية وخصوصية موضوعه. وهو ما سارت عليه أيضا مترجمة كتاب(علم السرد مدخل إلى نظرية السرد) إذ قدمت تعريفا سيريا بالمؤلف يان مانفريد.
وعلى الرغم من ذلك إلا إننا لا نعدم وجود تصديرات ترجماتية يقدمها المؤلف نفسه تنم عن إتباع واع لمنهجية تلائم ممارسة نقد النقد كتوظيف منهج التأويل أو منهج الاستنطاق ومن ذلك التصدير الذي تقدم كتاب(مدخل لجامع النص)، إذ سلّط المترجم الضوء على ما ورائية قضية الأجناس الأدبية وعلاقتها بالشعرية، ثم استنطق أهم سمة في الكتاب وهي التكثيف في اجتراح مفاهيم الجهاز النظري مع مراجعة لدلالة العنوان وتبيان ما يمكن أن يكون من مزالق الترجمة بإزاء الكيفية التي سار عليها في وضع الهوامش والعلامات والأرقام.
أما المقدمات التي يضعها النقاد لمؤلفاتهم أو مؤلفات غيرهم من النقاد، فهي لون من ألوان نقد النقد والأمثلة عليها كثيرة ومتنوعة لكنها لا تكاد تتفق على منهجية واحدية أو ازدواجية وربما لا منهجية في تقديم الناقد لكتابه إذ قد يوظف الناقد منهجا يستقيه من طبيعة المنهج الذي سار عليه في متن الكتاب فصولا وأبوابا وذلك ما فعله الباحث علي حرب في مقدمة كتابه( هكذا أقرأ ما بعد التفكيك)، إذ استعمل التفكيك منهجا توضحت أبعاده من عنوان التصدير(الحقيقة والقراءة) تطرق فيه إلى القراءة مفهوما ومصطلحا وعلاقته بالحقيقة وأن ليست القراءة مفتاح الحقيقة؛ بل هي تلغي مفردة الحقيقة متبنية منطقاً حوارياً.
ولأنه متأثر بنيتشه ودريدا انطلق يفسر ويفكك واجدا( أن الكلمة تحيا ويتسع معناها باتساع مجالها التداولي) وهذه هي المنهجية نفسها التي اعتمدها في فصول الكتاب كله. وتجاوزت منهجية د. صلاح فضل في تصدير الطبعة الأولى من كتابه( نظرية البنائية في النقد الادبي) الاستمداد من منهجية الكتاب البنائية مرتقيا نحو منهج التأصيل الذي يقوم على إعادة الانتاج وهذا ما يجعله منتميا عمليا إلى ما بعد النقد من خلال تركيزه النظر على جوانب بعينها، منها :
1ـ أن كتابه يرتكز على الجانب النظري ومناهجه الدقيقة والجافة ( فهو مغامرة حقيقية في قلب الفكر المعاصر اقتضت جهدا شاقا ).
2 ـ أن الكتاب محاولة لتفجير مشكلة المنهج في النقد الادبي تسترق السمع لما يلهج به الناس اليوم في العلم الحديثة من لغات نجهلها ونتصور أننا لسنا بحاجة لمعرفتها.
3 ـ مؤاخذته الناقد العربي على كسله وشلله في تصور المعارف الانسانية الكثيرة و( أن أسوأ عاداتنا النقدية هي كسلنا الذهني الذي يصل إلى درجة البلاهة وجهلنا الذي يختلط بالسذاجة وتسرعنا في التعرض لما لا نحسن وافتقادنا لأدوات البحث الرئيسة وهي الإعداد المنهجي الشاق)
4 ـ البحث عن نظريات ورؤى وتصورات جمالية بغية العثور على قاعدة منهجية صلبة.
بينما كانت منهجيته المعتمدة في التصدير للطبعة الثانية من الكتاب نفسه قد بدت متنوعة المنهج والمسار، إذ بدأت مستدركة على الأولى في عدم علمها بالدراسات التي تناولت موضوعات قريبة من موضوع الكتاب، لكنها سرعان ما اتخذت مسارا استقصائيا ميدانه كتاب كمال أبو ديب( جدلية الخفاء والتجلي) فاستعرض مشكلة المصطلح النقدي وانتهى إلى قراءة تقويمية شاكرا المثنين على الكتاب ومتبرما من أولئك المنتقدين للعجمة الاصطلاحية والاستعصاء في فهم تلك المصطلحات مذكِّرا أن البلاغة العربية كانت أهم مقولاتها مستحصلة من مبادئ البلاغة اليونانية.
واعتمد د. صالح هويدي في تصدير كتابه( الضوء والفراشة مقاربات نصية لنماذج من الشعر العربي) على منهج وصفي يقف على مشكلات النقد وعلاقة المناهج بنقد الشعر وكيف ينبغي أن تكون المقاربة النقدية منطلقة من البنية التركيبية للنص ونسيجه الداخلي وليس العكس. واعتمد المنهج نفسه في التقديم لكتابه(المناهج النقدية الحديثة أسئلة ومقاربات) متحدثاً عن أهمية النقد للطلبة وجمهور القراء العريض وأهداف تأليفه وخطته.
وقد لا يرتأي الناقد أن يقدم لكتابه إلا ناقد آخر أكثر منه باعا وألمع اسما وأغزر نتاجا وغالبا ما نجد في هكذا تصديرات ما بعد نقدية أنها لا تخضع لضابط من منهج أو رؤية وأغلب الأحيان تعتمد الانطباع واللامنهجية. وهو ما يستدعي الضبط النقدي الذي باستقراره يتأطر الفعل ما بعد النقدي في محددات منهجية ورؤيوية توحد الجهود وتوجهها وبما يضمن لذلك الفعل الديمومة ويمنحه السيرورة والنماء بعيدا عن التشتت والتعارض والاختلاف.
ويظل الرهان اليوم صعباً لا في الدخول إلى حقل ما بعد النقد، بل في المصطلحات المعتمدة وطبيعة الأدوات الموظفة، ولعل في مقدمة إشكالات ما بعد النقد ما يتعلق بالنصوص النقدية نفسها والمنهج الملائم لقراءتها. وهل أن جميع هذه النصوص على اختلافها وتغاير معطياتها صالحة لان تخلط في بوتقة قرائية واحدة على وفق نزعة انتقائية تتبنى منهجا واحدا أو منهجين من دون أي ضابط أو كابح ؟! .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة