محمد الديهاجي*
إن قضية المناهج هي من القضايا الشائكة التي شغلت بال واهتمام الكثير من أهل الدراية في مجال البحث، «وهو اهتمام يعبر عن مدى القيمة الحقيقية المتزايدة التي أصبحت تُعنى بها هذه القضية في مجال البحث العلمي بمختلف جوانبه ومستوياته. ولعل هذا ما يفسر بلا شك العدد الهائل من الدراسات والأطروحات التي أعدت في سبيل الوقوف عند جوهر القضية. بيد أن المتمعن في هذا الكم الهائل من الدراسات لا يجد ما يثلج الصدر ويشفي الغليل، إذ غاب عن أصحابها الوعي المنهجي فكانوا بعيدين عن عمق الإشكالية المطروحة في تشعباتها وأبعادها المختلفة.» (عبد الغني بارة- إشكالية تأصيل الحداثة في الخطاب النقدي العربي المعاصر).
والحق أن تعامل النقد الأدبي المعاصر، عند الغرب، مع الظاهرة الأدبية، كان مطبوعا بجهد إمبريقي مبالغ فيه أحيانا، في اختبار فروض دراساته، في أفق موضوعية مثالية. قد يكون ذلك بسبب طبيعة وخصوصية النص الأدبي عندهم. ربما… لكن بالنسبة لنا نحن العرب، فإن الظاهرة الأدبية، عندنا، قد وُسمت منذ الأصل بخصوصيات واضحة، ذلك إن تميزها عن نظيرتها الغربية، راجع بالأساس إلى بيئة منشئها التي ليست إطلاقا هي نفس بيئة منشئ الأولى.
إن النقد المعاصر عند الغرب، قد نشأ في أحضان المنهج العلمي/التجريبي، ذلك أن أصحاب هذا المنهج يرون «أن كافة الظواهر الأدبية يمكن أن تخضع للقوانين العلمية» (سمير حجازي ص14). وبذلك فإن الفروض التي توجه كل دارس للأدب، ينبغي لها أن توضع تحت محك الاختبار. وإذا «تحقق الفرض وأكدته المشاهدات يدخل بذلك مرحلة القانون».(نفسه ص15)
لقد طرحت مسألة المناهج النقدية، في النقد الأدبي، في النصف الثاني من القرن العشرين، مجموعة من الأسئلة على النص الأدبي، في محاولة منها-الأسئلة- لجعله يتكلم وينطق بما يخفيه ويكتنزه، مطاردة بذلك جل دواله البنائية وكذا مدوناته الخفية. ولما كانت مرجعيات هذه الأطر المنهاجية، وهي في أصولها تعود إلى النظريات الفلسفية والإبستيمية الجديدة، متباينة ومتناقضة أحيانا، فإن حركية الاشتغال المنهاجي، في النقد الغربي باعتباره مؤسسا وسباقا، قد تميزت بنوع من الصراع – الصراع فيما بين هذه المناهج- والتجاوز القياسي.
ومعلوم أن فكرة المنهج Method ليست وليدة العصر، بل تعود أساسا إلى فرانسيس بيكون و كلود برنارد، في القرن السابع عشر، حيث اعتبرا المنهج وسيلة أو طريقة لفهم الوجود وبلوغ الحقيقة الغائبة، من خلال آليات دقيقة، في أقل وقت ممكن، وبأقل الخسائر الممكنة.
والحاصل أن المنهج العلمي، كما هو وارد في المدونات الغربية، هو فن تنضيد وتنسيق الأفكار، وتنظيمها بآليات دقيقة ومضبوطة، من أجل الكشف عن حقيقة الكينونة/النص، ونحن نجهلها، أو البرهنة عليها وتبيانها للآخرين، ونحن نعرفها.
أغلب الظن، في مجال الأدب، أن تغيُّر نظرة الدارسين والباحثين، إلى مفهوم الأدب، في ذاته، وإلى النص الأدبي، باعتباره كينونة تضاعف من وجودها، بفعل آثامها اللغوية (الآثام بما هي خرق وانزياح)، هي التي جعلتهم يعيدون النظر في طرائق تعاملهم مع النص الأدبي، منذ أواخر القرن التاسع عشر. لقد كانت الرغبة ـ آنئذ- ملحة وضرورية، من أجل تخليص النقد الأدبي من نزعته الميتافيزيقية، ولغته الصحافية، وأحكامه التذوقية، الشيء الذي دفع الدارسين، خصوصا في بحر القرن العشرين، إلى الاستعانة بالعلوم الإنسانية، والإفادة منها أيما إفادة،
فانقسمت بذلك نظرة الدارسين إلى الأثر الأدبي، وتعددت بتعدد المشارب الفكرية والفلسفية والأيديولوجية. فهناك من نظر إلى النص الأدبي بوصفه نتاجا مرجعيا/اجتماعيا، وهناك من اعتبره نتاجا وإفــــرازا لعوامل نفسية معقدة، وبالمقابل نجد تصورا آخر اختزل الأثر الأدبي كله في بنية مغلقة تنتظم في سلسلة من العلاقات والقوانين المضبوطة.
مؤشرا بذلك على فكرة «موت المؤلف»، فضلا عن أن هناك من اعتبر النص مجرد سلعة تعرض على قارئ/مستهلك، وتحتكم لشروط السوق مما يفرض علينا النظر إليه في تداوله واستهلاكه.
ولعل من مهام النقاد الجدد، الوقوف عند أهم المفاصل النقدية الغربية الحديثة، من حيث أطرها المنهاجية، دراسة ونقدا ومراجعة، في أفق حوار ممكن بين هذه المناهج، في إطار ما يطلق عليه اليوم «بالمناهج وتكامل المعارف»، تفاديا لكل المشكلات التي واجهت النقاد والدارسين والباحثين عند تطبيقهم لهذه المناهج على النصوص الأدبية التي، على كل حال، لها طبيعتها الخاصة والتي تختلف من أثر أدبي إلى آخر.
٭ شاعر وكاتب مغربي