أجيال الشعر لا الشعراء

حاتم الصكر

تتعرض المصطلحات النقدية لكثير من التشويش والفوضى ،ويُسقط عليها مستخدموها أحياناً ما يتداعى عن حالة الإلغاء والضيق بالآخر التي تسم الشخصية بوجه ما في حاضر أيامنا الملتبسة ،وما يتسلل إلى الخطاب النقدي من خارج إجراءاته وتداوليته وممارساته. استدعت تلك الملاحظةَ فصولٌ من مذكرات الشاعر هادي الحسيني و يومياته في عمّان ، وأعادت بعض تلك الهواجس، لا سيما وهو يسترجع أحداث عقْد ذي أهمية في الحياة الثقافية العربية هو عقد التسعينيات . في إحدى الصفحات يصف الحسيني جلسات الشاعر الراحل عبدالوهاب البياتي التي يلتف حوله في إحداها شعراء من ( أجيال ) متعاقبة ،تقاسموا رغم ما بين تجاربهم من اختلاف هموماً مشتركة ،جعلتهم يرصدون ذلك الالتقاء في المفاهيم والمؤثرات ويشيرون لما يجمعهم رمزيا حول واحد من شعراء الريادة كالبياتي، بينما تتنزل انتماءاتهم الجيلية من الخمسينيات وما بعدها حتى التسعينيات.
تثير مائدة البياتي تلك شيئا من الإحساس بالتعايش بين الاجيال وانتفاء النسخ بينها أو الإلغاء والقطيعة. وهي حالة ينفرد بها الشعر فتحضر تجارب متباينة الأعمار والأساليب في مشهد واحد ، ولكن بمحافظة كل منها على سماته ومزاياه الفنية واهتماماته ومصادره ومؤثراته ، وبالضرورة لغته وإيقاعاته ومستوياته البنائية.
كثير من رافضي مصطلح الجيل وبعض مستخدميه أيضا لم ينتبهوا إلى التحولات التي يمكن أن يحملها عقد من السنين ؛ لأن التعايش بين الأجيال يوهم بأن الزمن لا يضع حدا ما بين التجارب أو يلغي التحديث الذي هو من لوازم حياة القصيدة وحيويتها معا. ذهب البعض ليفسروا الجيل لغويا ويحتكموا إلى ما اعتبروه اعمارا تقاس بالسنوات ،رغم أن المصطلح في نشأته وتداوله يتصل بالشعر لا الشعراء ؛ فهو يفحص الاتجاه الفني والمناخ السائد ذلك العقد، وما يستجد في فضائه من أساليب ورؤى؛ لذا يمكن أن نحسب بعض التجارب ستينية مثلا رغم أن شعراءها يعدّون زمنيا من الجيل التالي . ويمكن أن نأخذ الرسم نموذجاً لإجراء مصطلح الجيل بشكل سليم ، فالمناخات التي اشاعتها المدارس والتيارات الفنية المتعاقبة لم تتحدد بزمن ،وصار بالإمكان ان نصف أعمال رسام ما بأنها واقعية أو انطباعية أو سوريالية رغم بعدها زمنياً عن تلك الاتجاهات . وذلك يتصل بدراسة الأدب في الاصل على وفق اساليبه وتياراته وليس باعتبار تسلسله الزمني. لكننا في حالة الشعر بحاجة لاستذكار التحولات التي تحققت عبر العقود المتعاقبة ، فكان الشعر الحر مثلا هو المهيمن في الأربعينيات و الخمسينيات. ويمكن أن نلحظ استمرار سماته في تجارب شعراء من عقود لاحقة. فيما كانت قصيدة النثر هي قصيدة الستينيات وما تلاها، لنصل إلى النص الشعري الذي ينفتح على الفنون والأجناس الأخرى في نصف السبعينيات الثاني وما بعده. ويمكن أن ترينا الدراسات النقدية تبدل اللغة الشعرية والرؤية والإيقاع ، فيغدو الجيل مؤشرا لتحول النص ذاته وليس تجييلا للشاعر، و يتركز مفهومه السليم في زمن النص لا عمر الشاعر.

  • عن موقع الكاتب حاتم الصكر

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة