د. عمار ابراهيم الياسري
شهدت فترة نهاية السبعينيات من القرن المنصرم أول حراك ثقافي نقدي للسردية العراقية بعد انفتاح عدد من المتمرسين بالنقديات السردية على التجارب العالمية في تفكيك بنية النص الروائي. وقد أفادوا كثيرا من تنظيرات رواد الحداثة النقدية في أوربا مثل ”رولان بارت، وجوليا كرستيفيا، وتودوروف” وغيرهم، وقد تحول الاشتغال النقدي من البنية الانطباعية الذاتية التوصيفية أو الاشتغال على ما حوته متون الكتب العربية الكلاسيكية من توصيفات للغة والحوار والشخصية إلى بنية أخرى تشتغل على التقانات السردية المتقدمة مثل المبنى الحكائي والمتن الحكائي والأنساق السردية وما إلى ذلك واتفقوا على ان الرواية المعاصرة تنهل من كل التجارب الادبية والفنية العالمية والعربية متأثرة بالاحترابات الفكرية ألتي كان أبطالها العديد من المجربين في محاولة للوصول الى معماريات نقدية تواكب التغيرات في السياسة والاقتصادي والاجتماع في بناءها الحداثي الجديد، فضلا عن تطويع علم النفس والاجتماع والتاريخ والفلسفة والدين والحكايات المورفولوجية والفنون الجمالية كالسينما والمسرح والفنون التشكيلية، محققة ابنية نصية ضاقت ذرعا بالسائد المألوف، وبدأت تبحث في تفاصيل الهامش والمهمل والمسكوت عنه باعتباره مرجعا مهما لها مستلهمة ظهور المناهج النقدية الحديثة كالشكلانية والبنيوية والسيميائية وصولا الى ستراتيجية دريدا في التفكيك او في الحداثة وما بعدها، تتبنى مهمة التصدي للنصوص بتحليل أبنيتها الدلالية وكشف ميكانزماتها الداخلية والتي يتحقق من خلالها تحديد مفاهيم التلقي، مما اتاح شيوع نظرية النص، حيث أطلقوا مصطلح النص على كل منجز إبداعي ينتمي الى حقل الادب وغيره بسبب التداخل الاجناسي للنصوص وحوارها مع بعضها البعض في المنجز الادبي الحديث، ومع وفود هذه الرؤى الفلسفية الى فضاء النقد العربي والعراقي حيث تبنى الكثير من منظري ومحترفي الكتابة الادبية مصطلح النص كبديل عن الجنس، فظهرت دراسات مثل ” تأملات في أدبنا العراقي المعاصر ” و”اللغة الثانية ” وغيرها لفاضل ثامر و ” شجر الغابة الحجري ” لطراد الكبيسي ودراسات متنوعة لحاتم الصكر وآخرين.
ومنذ عام 2000 وهو تاريخ صدور كتاب النقد الثقافي للدكتور عبد الله الغذامي والذي جاء بعد ثماني سنوات من صدور كتاب بنفس العنوان للمنظر والناقد الأمريكي فنسان. ب. ليتش، بدأ التنظير والتطبيق العملي في بلاد العالم العربي لهذا الوافد الجديد من اجل قراءة مغايرة للنص عما هو مألوف سابقا.
تشتغل المنظومة النقدية الثقافية في كل تنظيراتها على نظرية الأنساق المضمرة، وهي أنساق ثقافية وتاريخية تتكون عبر البيئة الثقافية والحضارية، وتتقن الاختفاء تحت عباءة النصوص على مختلف أجناسها، ثم تشتغل بصورة مذهلة في توجيه الجهاز ألمفاهيمي للثقافة وسيرتها الذهنية والجمالية المترسخة من خلال التلاحم الديالكتيكي مابين النص واليات التلقي المختلفة.
وقد تأثر المنهج الثقافي باستراتيجية جاك دريدا التفكيكية القائمة على التقويضية والتشتيتية والتشريحية، ولكن ليس من أجل إبراز التضاد والمتناقض، و تبيان المختلف أثراً وتأجيلا، بل من أجل استخراج الأنساق الثقافية عبر النصوص سواء أكانت تلك الأنساق الثقافية مهيمنة أو مهمشة، وتمركزها في سياقها المرجعي الخارجي، متأثرة في ذلك أيضا بعدة اتجاهات مثل الماركسية الجديدة، والتاريخانية الجديدة، والمادية الثقافية، والنقد النسوي الذي يدافع ثقافيا عن كينونة التأنيث في مواجهة الفحولة المطلقة، ونلاحظ في حفريات المعرفة لميشيل فوكو ميلا واضحا لهكذا نقود فضلا عن بورديو صاحب نظرية المادية الثقافية وآخرين غيرهم، أما من العرب فتعد كتابات ادوارد سعيد وعبد الله الغذامي خير مثال في هذا المجال.
وعليه فالنقد الثقافي هو مشروع في نقد الأنساق، والنسق مرتبط بكل ما هو مضمر من جهة وما هو غير مضمر من جهة اخرى، وقد كانت هنالك تجارب نقدية عراقية متميزة في هذا المجال منها للناقد العراقي ثامر عبد والناقد علاء مشذوب والناقد عمار الياسري، فضلا عن دراسات اكاديمية كثيرة.
والحقيقة إن التنظيرات النقدية العراقية أعلاه لم تخرج من جلباب التقليد الأعمى للمشروع النقدي الحداثوي الذي صاغه الشكلانيون والبنيويون وحتى استراتيجية جاك دريدا التفكيكية، وعد البعض من الأدباء دراساتنا النقدية بأنها أثواب جاهزة نلبسها لأي نص على الرغم من كونها دراسات علمية، أما البعض الأخر فقد عدها دراسات غير صحيحة لأنها خرجت من واقع غربي بعيد عن مرجعيات النص العربي.
وأمام هذا وذاك من المؤيدين والمعارضين تصدى رجال النقد الأكاديميين مثل علي جواد الطاهر ومالك المطلبي وعناد غزوان للجدل الإشكالي وأعلنوا بأن النص قد غادر محليته وأصبح كونيا واتفقوا كليا مع المناهج النقدية الحديثة الوافدة ألينا ونظرية موت المؤلف وقد اشرفوا على دراسات عديدة في جامعاتهم من أجل إيجاد خطاب نقدي رصين.
وشهدت فترة نهاية التسعينيات من القرن الماضي ومطلع الألفية الثالثة ظهور مدارس نقدية جديدة مثل التاريخانية والمادية الثقافية والنقد الثقافي في أميركا وأوروبا، وقد تبنى الناقد السعودي الدكتور عبد الله الغذّامي المشروع عربيا ضاربا كل تنظيرات النقد الأدبي السابقة في عرض الحائط مشتغلا على الأنساق المضمرة في بنية النص.
مما تقدم أعلاه نلاحظ أن المنهج النقدي العالمي عانى من منهجية البناء والتهشيم والتي تركت بصماتها على المشهد النقدي الحداثي العراقي، من خلال عدم ترسيخ المفاهيم النقدية العالمية لدى نقادنا فضلا عن الترجمات المتنوعة التي خلقت إشكاليات عديدة في بنية المصطلح النقدي المترجم من خلال معنى المصطلح وتأويله، ولا تقتصر هذه المفاهيم على السردية الروائية فقط بل حتى على النص الشعري والنص المرئي سواء كان سينمائيا أو تشكيليا وغير ذلك بعد أن تعالقت كل الأجناس الأدبية والفنية بالكثير من أدواتها المعرفية والتعبيرية والتأويلية.
لذا لازال النقد العراقي يعاني الأمرين، الأول هو توجه العديد من الأكاديميين على تطبيق المناهج الحديثة على نصوصنا محاولين تطويعها او حتى لي عنقها إلى بنية المنهج النقدي، أما الثاني هو عودة النقود الوصفية البعيدة عن التفسير والتحليل والتقويم وهي آليات التلقي المتقدمة والمعتمدة على ماحوته متون الكتب العربية الكلاسيكية من توصيفات للغة والحوار والشخصية مما ولد نكوصا كبيرا في المشهد النقدي بمختلف مشاربه بل وتدنى عن اقرأنه في دول المغرب العربي.