كمال عبد الرحمن
تنهض القيمة السردية في رواية (ليلة الملاك) للمبدع نزار عبد الستار على مجموعة من التقانات الفنية، التي تؤهلها للمضي في مصاف الروايات المتقدمة، بما تمتلكه هذه الرواية من مؤهلات وضع فيها الروائي نزار ،خلاصة تجاربه الفكرية والثقافية والحضارية، فنحن قبل كل شيء ازاء عمل سردي راق، يشتغل على حساسية كتابية، لا تسمح الا للقليل من الكُتاب بكشف اغوارها وسبر كنهها وكنايتها، ففي المسافة المائزة المتحركة جيئة وذهاباً بين الأسطورة والحاضر بتناقضاته ومباهجه واسراره، ومرورا بتلك الغيبوبات الملونة التي لا لون لها لعظمة تأثيرها في النفس كترقب ليلة العيد في مخيخ طفل مشتعل دهشة وانبهارا بالليلة الاسطورية لشدة سحرها وعذوبة وقعها على الانفس الصغيرة، تشتغل هذه الرواية على تعالقات فكرية اجتماعية ثقافية، وغامرت الرواية وزعم نزار عبد الستار أنه على رجعها لقادر، وها هو يحاول أن يمحو المسافات، ويردم الثغرات، ويزيل الألغام، ويزيح الأسيجة، لعله يصل الى ما عجز غيره عن الوصول اليه، ويكون لديه قصب السبق، من خلال اجتراح معجزة، وهو ان يوثق انبثاق مخلوق اسطوري لا كوني ، قادما من ثآليل او مسامات آشورية دبقة بالغرابة ومعجونة بالاندهاش.. نحن المندهشين دائما وابدا ب( الحقيقة / الحلم).. ولا سلاح ولا قوة لنا الا بالأحلام :
(( ـــ أنا حارس آتو نبشتم.. عملت في صناعة السفينة، وكنت ملاحه الخاص.. حاربت معه من اجل انقاذ البشرية من الغرق..
أخرج غصن الآس من الدلو، وتوجه بمنقاره نحو القمر، عم السكون المكان، تلاطم البياض في عدسة عينه الشاخصة وتابع:
ــ هو الذب اطلقني من السفينة للبحث عن اليابسة، لم يكن يثق بذكاء الطيور، مثلك تماما، كنت بشرا بوجه وسيم ، ولي حبيبة واطفال، وبعد فيضان عظيم، ورعد ،وبرق، وأمطار، كل قطرة منها بحجم الكبة، نقصت المياه، وكشف آتو نوبشتم الغطاء عن السفينة، وقال : من يبحث لنا عن اليابسة؟.
فقلت: أنا.. سمارتو الملاح يبحث عن اليابسة ويعود اليك بالبشرى. كان الرب قد أبطل السباحة، والغوص، وجعل الماء موتا، فأخذ ما علق في نعليه، من طين بيته، ومسح به ظهري، قال : باسم الرب تخرج من ظهرك.. من روح الرب تظهر، فخرجت الأجنحة من ظهري، ومسح رأسي بطين بيته، وقال: باسم الرب يتحول.. بقدرة الرب بصرك الان حديد، فتحولت ملامحي البشرية الى رأس صقر ، وفي اليوم السابع، أطلقني من السفينة للبحث عن اليابسة. لم اجد موضعا أحط فيه فعدت. ثم اطلقني مرة أخرى، فعثرت على هذا الغصن ولم اجد موضعا احط فيه فعدت. ثم اطلقني من السفينة المنتظرة للرحمة، فوجدت هذا الماء الصافي ولم اعد اليه.
رفع يديه عاليا، غصن الاس في اليد اليمنى، والدلو في اليد اليسرى، وتابع، وفي صوته رعشة سنجاب:
ــ هذه هي قوتي.. قوتي التي هربت بها في مثل هذه الليلة.. ليلة الخروج من السفينة، والعودة الى الحياة))
أما الاسطورة فإن من حق الناص أن يفيد من الاساطير و الرموز كافة، بحسب ما تنطوي عليه من إيحاءات ودلالات إنسانية وترابط وظيفي لبناء الرواية الخاصة، ((هو ما يتيح لنا أن نتأمل شيئا آخر وراء النص، فالرمز قبل كل شيء معنى خفي وإيحاء، إنه اللغة التي تبدأ حين ينتهي النص، أو هو السرد الذي يتكون في وعيك بعد قراءة الرواية، إنه البرق الذي يتيح للوعي أن يستشف عالما لا حدود له، لذلك هو إضاعة للوجود المعتم، واندفاع صوب الجوهر)) ، يقترف المبدع نزار عبد الستار اعجوبة زمنية قادمة من الهيلوي او الهلامي، زاعما ومدعيا انها خلق من خلائق الماورائية تعمل على وفق تعالق تليباثي أـو الاستشعار عن بعد، يقف (يونس) الصغير مرتبكا على اطراف حلمه، لا يصدق ما يراه، فثمة مخلوق عجائبي على هيئة طير لا يشبه طيرا، يبدأ التعالق النفساني، بين( يونس) وصديقه الملاك الغرائبي ( أكان ملاكا حقا!)، تندثر احزان الفتى (يونس) تحت هدايا ( الجنّي بلا فانوس سحري) أو ( السمارتو: شبيك لبيك) أو (المفجوع: الذي يحمل بين طيات منقاره العملاق صندوق العجائب)،تنشأ صداقة لاارادية بين الصبي الغارق في الاندهاش، وبين المخلوق الاسطوري الذي ظهر من باطن الغيب بلا دعوة، ملبيا شيئا من رغبات (يونس) الطفولية، وعارضا عليه تحقيق احلامه مجانا، يحاول (السمارتو المفجوع) اطفاء روع الصغير والتغلغل الى مخيخه الفتيّ رويدا رويدا، يتقرب اليه ويقترب منه من خلال زرع بساط الألفة والتآلف في الهوة التي تفصلهما، بين فتى صغير يخاف من نفسه، وبين مخلوق اسطوري ضخم ومفزع، وتحت مغريات كثيرة قدمها الوحش تقربا الى الطفل، لَانَ ( يونس) أخيرا، وضاع في غياهب الأسئلة والرغبات:
((زرعت المفاجأة يونس قبالة السمارتو المنهمك في تحريك الوعاء المعدني وسط الثلج، وظهرت على وجهه علامات متناقضة وتقلبات عاطفية غير مستقرة.
سأله:
ـــــــــ أهذا لي؟.
رد السمارتو، وهو يتنقل من صحن الى آخر مجملا طبقات الثلج الملونة، المحمولة على قراطيس البسكويت بالمطيبات المختلفة:
ـــــ نعم وبلا نقود.
ترك الدلو على النضد، وتقدم حاملا المثلجات بيدين ثابتتين. أخذ يونس ما يقدر الامساك به دون الاخلال بتوازن ارتفاعات الألوان، قال السمارتو:
ــ تذوقها.
عالجها الصبي بفمه وقال:
ـــ إنها لذيذة.. ها قد صارت تشبه الصاروخ.))
إن رواية (ليلة الملاك) خطاب سردي متعالق ومركب ، يصف شخصيات خيالية واسطورية و واقعية وأحداثاً تقع تحت طائل تخلخل البنية السردية، بما يؤمن تضارب حساس في الحكي والحبكة ،يختار نزار مهيمنة نصية نادرة تدور حولها الاحداث العجائبية ، حينما يكلف مخلوق ماورائي نفسه متصالحا مع اخطائه بمشروع مصادقة طفل بريء، لعل السمارتو نذر نفسه لهذا، هو شيء من تبكيت الضمير، بما اقترف من خيانة صاحب السفينة الذي آمنه وآمن به، فخانه السمارتو بأول فرصة عثر عليها، ما سر علاقة كائن اسطوري بصبي موصلّي لم يخرج من اطار براءته بعد، لمَ لم يصادق رجلا أو امرأة، عجيب حبه للأطفال، والاعجب غرائبية تعالقه الانساني بالفتى (يونس)، ماذا اراد ان يقول لنا نزار عبد الستار في روايته هذه،ماالذي جال في فكره وقلبه كي يفتح لنا ذراعي لغز انساني عجيب هو ( السمارتو: شخصية خالية مركبة لاوجود لها في المثيولوجيا العراقية استوحاها المؤلف من المنحوتات الاشورية التي زينت قصر الملك الاشوري آشور ناصر بال (884ــ 859 ق.م ) أما اسم السمارتو فهو من وضع المؤلف).
تنبني رواية (ليلة الملاك) على فكرة تعالق الواقع والاسطورة، وهل يمكن ان يتعايش هذان المتضادان تحت راية الأنسنة، فالسمارتو بمواصفاته التي تنماز بالتحرر حد المبالغة، والتطور حد الدهشة، والتقلب في صورة مختلفة، لشدة مفارقتها تنكر ان السمارتو لم يكن يوما شابا بشريا مثلنا لديه عائلة واطفال، هذا الطائر الهلامي الاسطوري يسعى لتحقيق معجزة عن طريق كسب ثقة صبي صغير يجهل ما حوله من رموز ومسميات وفعاليات انسانية ، في الرواية شخصيات محورية مثل (السمارتو) و(يونس) واخرى ثانوية مثل(الجدة فطوشة) وغير ذلك،
ويقترح السارد الحكيم نزار عبد الستار على مرويته هذه حدثا واقعيا من باب الخيال ، وخياليا من باب الحقيقة، هو نص لا سيري غائص في الجدليات السيرية السردية،نحن قد نعتقد ان نزارا قد فرض علينا حكاية ما ورائية، وطلب منا تصديقها والاعتقاد بها، لكننا بعد الغور والحفر السردي في غياهب النص ، نجد انها ــ الرواية ــ في اغلب الظن ليست الا زراعة البهجة في الأفئدة الجائعة الى البهجة حتى لو كان ذلك عن طريق الحلم:
(( سقط رأس يونس على صدره فاستيقظ. استولى النعاس على جفنيه من جديد، ولكنه تمكن من مشاهدة السمارتو في وقفته تلك، واستطاع ان يسأله، قبل ان يأخذه الطيران الى القمر، وهو يتحول مع زرقة الفجر الى طائر من فحم:
ـــ متى تعود الى البيت يا مفجوع؟.
تقابلت الريح بعد طيران السمارتو عند قمة الدولاب، ولكنها سرعان ما اتفقت على ان تكون غربية شرقية، وباعتدال، تأرجحت العربة، محافظة على نوم يونس الذي أخذ شكل جنين على خشب المقعد، وهو يحتضن، من حلمه، آلة كمان صغيرة ، وبالقرب من رأسه الدلو المحفور برسم شجرة الطرفاء، ومعه غصن الآس الأخضر))
لا شك الروائي المبدع نزار عبد الستار روائي خاص ــ كما قلنا اكثر من مرة وفي اكثر من مكان ـــ، تكمن خصوصيته في قدرته على استخراج شخوصه الروائية من أماكن نادرة وعجيبة في أزمنة وفضاءات بعضها يصعب إيجاده حتى في الخيال، لكنّ نزارا يرتدي طاقية الإخفاء الإبداعية ويتجول في استراتيجية «الزمكان» ليستخرج منها شخصيات قد لا يلتفت إليها أحد أو يشعر بوجودها إنسان.. أما نزار المبدع فهو يشعر بها ويعيشها ويعايشها لحظةً بلحظة، ولا يرسم نهاياتها كما يشاء، بل كما تشاء الأقدار، ومن هذا السؤال التعالقي، يتشكل النص وفق «الرؤية الاستقصائية» أولاً، والتي تسمّى «المسح التتابعي» ، وتنهض على قيام الروائي بإجراء عملية مسح واستقصاء لمعالم التشكيل السردي التي ستمنحنا عرضيا سرديا مائزا رائيا نادرا، من خلال قدرة نزار على ابتكار وسائل بهجة وادخالها بيسر وسهولة في قلوب الاطفال العراقيين الذين فقدوا طعم البهجة من قبل (يونس بانبيال ) بمئات السنين.
يشتغل عملُ الروائي نزار عبد الستار في (ليلة الملاك) على تقانات العدسة السرد-تصويرية، على نحو يسمح بتسيُّد الصورة بكل ما تحمله من خصوصيات تشكيلية داخل فضاء السرد، تاركاً للأخير مهمة تركيب مكوناته على صعيد التأليف، ومهمة قيادة القارئ أو توجيهه داخل النص على صعيد القراءة.
ان عتبة العنوان «ليلة الملاك» تستجيب للإدهاش واللغزية منذ بداية الرواية حتى نهايتها،فلاتجد ما يوحي بتعالق الطفل (يونس: وهو اسم مرمّز) مع الهلام الماورائي (السمارتو) بسردية الحدث، لكن مع لذة القراءة والتهام صفحات الرواية دهشة واعجابا وتحليلا، سنصل الى انسانية نزار عبد الستار وهو يحكي لنا حكاية نادرا ما تحدث بها أو عنها أحد.
وهكذا فإن رواية (ليلة الملاك) للمبدع نزار عبد الستار حققت ثلاثية التميز والتفرد والابداع، من خلال (الصعق) و(الإدهاش) و(المفاجأة) ، وهي العناصر التي ارتكزت عليها الرواية في صناعة نص سردي هويته الإنسانية، وسيرته المفاجآت ونهايته (الصعق) عندما يخرج يونس من حلمه الأثير، بينما يغادر السمارتو مع انبلاج الفجر وقد حقق معجزة لطفل صغير في زمن ولت فيه المعجزات.
وختاما فان رواية (ليلة الملاك) لنزارعبد الستار قالت الكثير والكثير ،مما لم تقله روايات عربية واجنبية، كما أن هذه الرواية تحتاج الى قراءات نقدية متعددة.. واصغاء نقدي خاص، رغم صوتها الهادر في الزمن، فهذه فسحة صغيرة انطلقنا من خلالها لدراسة أسطرة الشخصية وتشظي الزمن فيها، ونجح أيضا عندما قدم لنا في روايته حكايات مملوءة بالعجب والتعجب والمفارقة، لقد روى لنا نزار عبد الستار حكايات شخوصه بشعرية عالية فيها الكثير من الادهاش .. ونجح وتفوق، ليمنحنا أعلى شعرية في تأسيس حبكة محكمة، تسردن من خلالها المكان في المسافة المائزة بين السحر والجمال، فأشرقت الطفولة ببهاء الكلمات التي لا تشبهها كلمات.