ريسان الخزعلي
( 1 )
(عند حافة الجرف توقف َوطوّح َ بساعة معصمه بعيداً بعيداً نحو موجة مقبلة ، وتبعها بهاتفه النقّال . ثم راح َ يُخرج من كيس ٍ أسود َ معلّق ٍ بذراعه كتبَه الثلاثة ، فيطوّح بها الكتاب تلو الآخر نحو الموجة ذاتها . والتفت َ الينا وهو يبتسم . فما كان منّا نحن الذين آثرنا المكوث معه الّا أن نطوّح َ جميعاً، دون تردد بهواتفنا النقّالة الى موجة مقبلة لاحقة . كما لم يتردد مَن كان يضع منّا على معصمه ساعة ً في أن يُطوّح بها، مثلما يُطوّح بصُرّة ٍ أودع فيها همّاً انتزعه من صدره. ولو كان لدينا أيُّ نسخة من كتبه الثلاثة لطوّحنا بها هي َ الأخرى من غير أن يطرف لنا جفن. كان ذلك بعد ثلاثة عشر يوماً من وصولنا الى شاطئ هذه الجزيرة .
ما تقدّم َ هوَ المفتتح الإستهلالي لرواية ( في اللا أين ) للروائي الكبير «طه حامد الشبيب» وهو استهلال : كاشف، واضح، دال، و مرمز في الوقت ذاته . وقد سلّمنا المفاتيح الفضيّة لفتح مغاليق صندوقه السحري المركون في منزل السحرية الواقعية ، تلك السحرية التي اجترحها في معاكسة واقعية ماركيز السحرية.
إنَّ الشبيب في الكثير من رواياته ، غامض ٌ في استهلالاته وما يتبعها من الصفحات اللاحقة ، مما يُشكّل عقبة ً في مواصلة التلقي عند نوع من القرّاء وحتى عند بعض النقّاد ، إلا أنه في الروايات الأخيرة مال َ الى الوضوح ، الوضوح وليس البساطة، وحتى وإن توافرت هذه البساطة، فإنها بساطة ظاهرية خادعة. مال َ الى الوضوح لأنه ُ أنصت َ بعمقٍ للصدى، صدى وقع رواياته الموصوفة بالصعوبة، وفي كلا الحالين، انه لا يُقدّم تسليات جاهزة لأنه في موقف مغاير للسردية العراقية والعربية كونه راوياً ذاهباً بعمودية ٍ حسيّة صوب َ سحرية الواقع ، لا كاتب سيَّر كما نلاحظ في العديد من الروايات ، ومثل هذا التوصيف يحتاج وقفة غير هذه .
إنَّ كشوفات الاستهلال في ( اللا أين) تفضي إشارياً الى ( الدوال ) الآتية :
*.. رمي الساعة ………….. محاولة لإيقاف الزمن والبحث عن زمن ٍ جديد .
*.. رمي الهاتف ………….. محاولة لإيقاف الاتصال مع كل آخر .
*.. رمي الكتب الثلاثة ……… محاولة لإتلاف أو محو كُتب المعتقد الديني الثلاثي.
في الرواية لم يُستخدم الفعل ( رمى ) وإنما تم استخدام الفعل ( طوّح َ ) لما يحمله ُ من دلالة حركيّة ترتبط باشتغال الجسم كاملاً بحركة تموجيّة لحظة الانفعال .
وكل هذه المحاولات الثلاث قد تمّت بزمن قصير جداً ، وبعد ثلاثة عشر يوماً – وللرقم أو العدد 13 دلالته الميثولوجية – من الوصول الى ( هذه الجزيرة ) وليس أيّة جزيرة .
( 2 )
في مكاشفة قراءتي التذوقيّة هذه ، وهي مكاشفة البحث عن المعنيين : الفني والعام ، لا أُريد أن أتحدّث عن تفاصيل احداث الرواية، لأنها هي َ الأجدر بالقول نصّاً وتفاعلاً، وقد قالت بتمكن لغَوي، وسرديّة فاتنة ذات تقنيّات حديثة لاحقت مصائر كل الشخوص وأوصلتهم كهاربين الى ( هذه الجزيرة ) – دلْمون المُخيّلة ، وابتدأوا يمارسون الزراعة والصناعة البدائيتين ، متفاعلين بالحوارات العاميّة في توضيح نواياهم ومقاصدهم ، كسراً لقاموسية قد تُثقل أو تُشتت الدلالة .
إنَّ ايقاف الزمن الحاضر والبحث عن زمن ٍ جديد ، وايقاف وسيلة الاتصال الهاتفي الحديث ، واتلاف أو محو كُتب المعتقد الديني الثلاثي ، والاهتداء الى الزراعة والصناعة البدائيتين ، وممارسة الطقوس الاجتماعية الأوليّة .. ، ماهي الّا مراودات ومشاغلات باتجاه فكرة مُتخيلة خارج واقع صادم بتعارضاته الحادّة ، إنها فكرة واقع ( في اللا أين ) فعلاً ، واقع المشاعيّة الأولى تخيّلاً ، كخلاص وجودي ونزوع الى العودة نحو الابتداء والبياض . كما أن الاشارة الى المناضل (سلام عادل ) كان لها من التأصيل ما يُعزز هذا النزوع . ألم أقل أنَّ رواية ( في اللا أين )..رواية البحث عن المشاعيّة .
وهنا يحضر قول ( ماركيز ) بقوّة حول طبيعة العمل الروائي فكرة ً وتشكيلاً حيث يقول :
وبالقدر الذي تحتويه الرواية من الواقعية ، فإنها بقدرٍ آخر تحتوي على ما هو أسطوري ايضا ً. والشبيب قد تماهى واقعياً وأسطوريا بطريقة ٍ تُضيف ( سحرية الواقع ) الى ما يُكمل المعنى ويستدركه في روايته ( في اللا أين ).