د. نادية هناوي
الفلسفة بعدٌ مهمٌ من أبعاد التّشكل المعرفيّ الذي به قطعتْ البشريّة مفازاتٍ ساشعة متمكنة من الارتقاء بفكر الإنسان إلى مديات وصلتْ به إلى مستوى تنبؤي يستشرف المستقبلَ بعينٍ ثاقبةٍ وذهنٍ متقد. وإذا كانت الفلسفة على هذه الدرجة من الأهمية؛ فإن تمثيل مفاهيمها ورؤاها في شكل ممارسة كتابية بها يتحول التّجريد النظريّ إلى واقع نصيّ مجسد، ستكون له درجة مضاعفة من الأهمية. وهو ما تضطلع بأدائه الروايّة بوصفها جنساً سردياً يتخذ من الواقعيّ والمتخيل ميداناً له، ومن الفكر مطلباً به يوصل رسالته التّثقيفية والتّنويرية.
ولا غرابة أن تكون الرواية في القرن الحادي والعشرين فناً تعددياً، لأن مؤلفها لا ينغلق على ميدان من ميادين الفكر والمعرفة وهو يوظف حكاية أو يجسد شخصية بانيا معماره الداخلي بصيغة جمالية ما. وأيّاً كانت متاهات هذا المعمار وخصوصيات مسالكه وألاعيبه؛ فإن الرواية تبقى في دائرة يتعدد فيها البحث والتساؤل والتحدي واللااعتياد. ولأن انحرافها عن المألوف متوقع، يغدو تأثيرها المجتمعي كبيراً وهي تقدم تنبؤات أو تشخيصات أو تأويلات تقلب ثوابت الفكر رأساً على عقب. ولعل هذا المسلك هو ما سيجعل مستقبل الرواية العربية مزدهراً كجنس سردي يهيمن على سائر الأجناس الأخرى.
وعلى الرغم من تزايد النتاج الروائي في العالم العربي اليوم؛ فإن ما يتماس فيه الروائي مع الفكر يبقى متواضعاً، لا يتعدى الممارسات الفكرية التي تتلاقى مع الفلسفة عرضاً في الأغلب وليس قصداً، وسطحاً لا عمقاً، كما أنّ كتابة الرواية الفكرية تظل مقصورة في العموم على المفكرين الذين تخصصوا في الفلسفة أو اشتغلوا فيها، بينما يتعاظم كم الأعمال الروائية العربية ذات المنحييـن الواقعي بأشكاله المختلفة والرمزي وما قـد ينطـوي فيـه مـن أشكـال كتابيـة متقاربـة.
ولا عجب أنَّ كثيراً من المسائل الفكرية تبدو مستعصية ولا سبيل لفك الاشتباك فيها، ومع ذلك يحاول الروائي ـ بما خبره من تجارب ومعطيات عاشها أو قرأها أو تخيلها ـ معالجتها في قالب الرواية بنماء ودينامية تماشي الحياة في تغيرها وتبدلها.
والمدهش أن جميع المراحل التاريخية التي مرت بها الأجناس السرديّة العربية كانت قد شهدت هذا التلازم ما بين الفن والفكر. حتى لا سرد من دون فكر به يميل الكاتب إلى توجه معين وقد ينتمي إلى مدرسة ما. وعادة ما يفضي ميل الروائي العربي نحو الفكر إلى البحث عن الشكل الفني المناسب الذي فيه يتأطر ذلك الفكر سردياً بالقطع والوصل أو بالتداخل والتناص أو بالحوار والوصف أو بالتداعي والتصوير.
وهناك كتّاب ذوو فكر أصيل وإحساس واع بالفن امتلكوا رؤاهم الخاصة في السرد معبرين بها عن تجاربهم الذاتية وانتماءاتهم الفكرية ومعاناتهم الواقعية، وبعض تلك الرؤى الأصيلة هي التي استدعت النقد كي يتعامل معها بعدة فلسفية وبمفاهيم تنظيرية، وربما أثارت انتباه الفلاسفة إليها أيضا وهي تؤشر على معضلة من المعضلات الفكرية أو أزمة من الأزمات الإنسانية التي تستوجب الفهم بسبب ما فيها من التباسات ذهنية واشتباكات فكرية.
ومهما يكن من قلة النتاج الروائي العربي ذي المنحى الفلسفي الصميم، فإن الروائي العراقي لا يتوانى أحيانا من توشيح بعض صفحات روايته ـ واقعيةً كانت أو رمزيةً أو تاريخيةً ـ بسطور يبثها في تضاعيف المتخيل السردي، وفيها يتفكر الكاتب في إشكالية معينة، يضعها أمام القارئ منتظراً منه التفاعل معه في لحظة دهشة أو اصطراع أو تصالح. وليس همُّ الروائي من وراء هذا التفكر حل الإشكالية؛ وإنما طرحها بحيوية وفاعلية.
والكاتب إذ يطرح الإشكالية الفكرية في تضاعيف السرد فكأنه يضع العقل وسط دوامة التخييل، وهو ما برع في تطبيقه نجيب محفوظ الذي عَرَفَ الفلسفة أولاً ثم برع في تسخير موهبته السردية في التفاعل معها آخراً، ولاسيما في أعماله الروائية الستينية التي بها ارتقى إلى مرحلة فنية جديدة توصف بالفلسفية، جاعلا الرواية العربية تهتدي إلى طريق الكتابة الفلسفية، مناظرا بذلك والتر سكوت الذي كان قد أرتقى بالرواية الغربية إلى القيمة الفلسفية للتاريخ.
وخصوبة الرواية هي في جدوى ما تحققه من هز كيان القارئ وهو يتفكر في صيرورة الحاضر متحفزاً للمستقبل ومدققاً في الماضي. وعلى الرغم من اختلاف الفكر ثورياً أو ليبرالياً؛ فإن الهدف يظل واحداً هو الإنسان الذي هو أيضا هدف الرواية التي تسعى إلى تمثيل واقعه ذاتيا وموضوعيا كاشفة عن المعاناة الانسانية في خضم زمن متسارع وفوضوي، نُسيء إليه أن نحن وصفناه أنه مجرد جدلية، خالطين الزمان غير المجدي وغير الفعال بالزمان الذي أفاد وأعطى.
والرواية التي تعنى بالفكر ليست نفسها التي تعنى بالعقل كغاية وسيلتها السرد؛ بل هي التي تجعل الفكر والسرد يمتزجان كغاية ووسيلة معاً، وبما يجعل الرواية الفكرية عبارة عن فكر روائي هو في الأساس مقاربة كتابية يتداخل فيها النظر بالممارسة. وهو ما يجنب الروائي السقوط في التجريد متوخياً الحذر من التهويمات ومستثمراً في الىن نفسه التقنين مبتعداً عن التقرير، وقد تصالح الفكر مع الفن.
ولا يمنع ذلك الرواية غير الفكرية من أن تتماس مع الفكر والتجريد وذلك حين يمرر كاتبها وبصورة غير مباشرة بعض التصورات الفكرية، وبحسب قدرة شخصياته على التفكر والتأمل، أما كسراً للجمود والرتابة أو تحريضاً للقارئ على التفاعل الفكري في النظر للظواهر ونقدها.
إن حاجة الإنسان إلى الفلسفة تزداد يوما بعد يوم، ولعل عصرنا هذا محتاج إليها أكثر من أي وقت مضى، لأن التطورات العلمية صارت أكثر من ذي قبل ضغطاً على الوجود الإنساني. ولم يعد الصراع الذي كان في القرن العشرين صراع اليد والآلة والقوى الكبرى وحروبها الكونية وثورات الشعوب التحررية والهجرات الجماعية الاستيطانية؛ بل هو اليوم صراع الذهن والقوى الناعمة التي أداتها الريبوتات الآلية وسبرانية الرقميات وعولمية البرمجيات والانفوميديا ومتطلبات الاندماج الثقافي وخطورة الاحتباس الحراري ونقص موارد الاقتصاد وتضاؤل مصادر الطاقة وغير ذلك كثير.
وصار التهجين Hybridization أمراً واقعاً في مجالات الحياة كلها التي فيها الإنسان محكوم عليه بإرادة رقمية ضمن نطاق سبراني، وهو ما جذب انتباه الأدباء روائيين وغير روائيين معربين عن قلقهم إزاء هذا الواقع الفوضوي.
ولأن ضغط القوى الناعمة على الإنسان أخذ يزداد إلى درجة الفوضى، يأتي دور الرواية الفكرية التي بوسائلها الفنية تستطيع أن تمنحنا مجالاً للتأمل في ما يجري حولنا، فلربما سنشكك في توجه سلكناه وقد نثبت عنده لنغيره أو نطوره، والفلسفة هي التي تعيننا على ذلك.
وإذا كان تطور المعارف متسارعاً، فليس أقدر من الرواية على منحنا فرصة التفكر وإعادة النظر إزاء هذا التطور برؤى جمالية أو أخلاقية أو إيديولوجية وبروح تقبل الجدل ولا تتسمر عند وجهة نظر طوباوية أو مادية.
ولا شك أنّ الرواية هي الجنس الأدبي الأكثر شبها بالحياة. لذا يمكنها أن تكون ذات تأثير فكري سواء على المستوى الداخلي أو على المستوى الظاهري. والرواية العربية منذ نشأتها وهي تعنى بتمثيل الفكر فيها، عاكسةً رؤية كاتبها التأملية في الحياة بلا خلفية معرفية صادرة عن توجه فلسفي أو مدرسة فكرية؛ بيد أن بعض التصورات الفلسفية ـ التي تغلغلت في الفكر الانساني وأثرت فيه ـ قد تغدو ميداناً لرواية ذات طابع فكري تعكس فكرة من أفكار الحداثة وما بعد الحداثة أو تتشرب فلسفة من الفلسفات الجمالية العقلية أو المثالية أو التجريبية، وقد تجمـع بيـن أثنتين منها أو أكثر.