يوسف عبود جويعد
أولى المهام التي تفرض نفسها على الروائي الذي يتهيأ لتدوين النص، من الأدوات التي تبرز قبل غيرها ، إيقاع النص وانسيابيته، التي تشبه إلى حد بعيد، النغمة أو اللحن، أو الموسيقى، والتي تستمر من بداية أول سطر يخُط الى نهاية النص، وهي مهمة يعيها كل روائي خبر أدواته، بعدها تأتي مهمة أكثر صعوبة وهي الاختيار الأمثل إلى اللغة السردية، التي تتوافق وتنسجم وتتلاءم، ومجريات العمل الفني للنص، بعدها توظف الأحداث والشخوص وحتى الزمان والمكان لينضموا تحت تلك المعالجات الفنية، وتتوحد جميعها لتبدأ رحلة التدوين نحو فن صناعة الرواية.
في رواية (رماح الملائكة) للروائي ابراهيم حسين حسن، نجد تلك المعالجات الفنية الضرورية ماثلة أمامنا بشكل جلي ، فقد امتلك هذا النص إيقاع وانسيابية تنسجم والسياق الفني الذي تدور في دائرته دورة الأحداث، ونجد اللغة السردية تميل الى العمق الروحي المؤثر والمتأثر بوقائع الأحداث التي تدور رحاها في هذا النص، كونها تركيبة من عناصر متعددة الأبعاد، منها الشاعرية والشعرية، ومنها الروحية والوجدانية، ومنها الحس الإنساني، والتعاطف الحميمي المتصل بحب ووئام مع دائرة الاحداث، ورغم أن أستاذ كاظم هو جار لبيت استاذ جواد الذي يسكن في زقاق خلفهم، الا أن مهمة إدارة دفة الاحداث، أوكلت إليه، بمشاركة السارد العليم، الذي يظهر عندما يكون لمسيرة الاحداث جانب خال من دور كاظم، حيث تبدأ رحلتنا مع هذا النص، في الطائرة التي تقل جنان أم مليك، وأبنها مليك عائدين الى أرض الوطن، بعد أن تأزمت حالة مليك لإصابته بمرض خبيث هو (سرطان بالدم)، وكانت الأم تشعر بقرب نهاية ابنها:
(تذكرتْ تقرير المستشفى الذي لخصه وجه الطبيب وهو يحدثها بأسى:
- إنها مشيئة أقوى من قدراتنا وحدود معلوماتنا، ابنتي امنحيه حضناً دافئاً ليعيش أيامه وهو آمن بوجودكِ، ابتسمي له كلما يفتح عينيه، ابتسمي بوجهه حتى وهو نائم. ولا اريد أن أحسب ايامه بدقة، من يدري، قد يكون قلبه شجاعاً ويقهر ضعفه، مع أنها قضية مستحيلة!. مشاعري كلُّها معه ومعك سيدتي.) ص 12 .
من هنا نلج الأحداث وهي في تأزمها المضني، حيث تشهد الأم وفاة ابنها على متن الطائرة بتفاصيل دقيقة محاولة إنقاذه حيث تلجأ الى طاقم الطائرة طالبة المساعدة والبحث عن طبيب بين الركاب لإنقاذ ابنها من الموت المحيط به، الا أن كل المحاولات باءت بالفشل، وودع مليك الدنيا ورحل الى الملكوت الأعلى، ونعيش تلك التفاصيل وفق اللغة السردية التي اختارها الروائي، لتضيف لمسيرة السرد هالة من الشفافية والحزن المؤثر، وبما أننا قد شهدنا تلك الاحداث منذ بدايتها بوفاة مليك داخل الطائرة ومازال الدرب طويل مع الاحداث، فمن الطبيعي سوف لن نتوقع ما سوف يحدث، وهو جانب من المعالجات الفنية يحسب لصالح الروائي، الذي سوف نشعر ونحن نتابع مسيرة هذا البناء السردي أن هنالك مفاجآت مضمرة وغير متوقعه، وبالفعل نتفاجأ بوفاة جنان أم مليك بعد أن شهدت جثمان أبنها، وما زلنا في بداية الطريق، ولا زال السؤال شاخصاً بماذا يفكر الروائي ؟. ما الاحداث التي تنتظرنا بعد أن شهدنا تلك التفاصيل المؤلمة، وهنا ينسحب السارد العليم من مهمة إدارة دفة الاحداث، ليستلم استاذ كاظم هذه المهمة، وهو خارج دورة الاحداث، ولم يشاهد سوى سيارة تحمل تابوتين واحد كبير والآخر صغير، مرت بالقرب منه وانذهل لهذه الواقعة المؤلمة، الا أن شعور غريب ينساب الى روحه وداخل وجدانه وأحس بقلق شديد، وهنا يدخل جانب المتعة والتشويق، وما علاقة كاظم بجنان ومليك، وبما أن تفاصيل هذا النص تعتمد على المتابعة أكثر منه الى التوقعات وكشف الاحداث مسبقاً، فأن المحاور اللاحقة التي تمت بين كاظم وزوجته رباب، تكشف لنا العلاقة الحميمية بين الجارين كاظم وجواد جد مليك ووالد جنان، ومدى تعلق وحب كاظم للطفل الصغير مليك:
( وبصمت قضينا ساعات في بيت جارنا نواسيه، بما يمكن ان يُخفف ولو القليل من ثقل مصيبته. ولم أشأ على قربي منه، أن أسأله عما حدث، فيكفيه ما به من فجيعة، ثم أن التفاصيل لن تقدم أو تُؤخر شيئاً. لكن الذي آلمني جداً، هو عتابه لي عندما طلبتُ الأذن منه بالذهاب، فقد همس وهو يحتضنني:
« أتمرُ جنازتا جنان ومليك ولا تلتفت إليهما، ألم تشاهدني؟ . ألم تتعرف على حامد وسلام، ثم ألم يُحدثك قلبُك بشيء يا أخي وجار عمري؟؟.» ) ص 38 .
ورغم كل الذي مررنا به من أحداث، الا أن ذلك لم يكشف البؤرة الرئيسية التي تستند عليها مسيرة وحركة السرد، والتي هي القاعدة الرئيسية التي يعتمد عليها المبنى السردي، وبدونها يعتبر النص الروائي غير مكتمل لعناصره الرئيسية، وكل الذي مضى هو تمهيد من أجل أن ندخل بؤرة الاحداث، وتلك البؤرة انتقالة ثانية وغريبة، رغم اتصالها بمتن النص الا أنها من زاوية نظر مختلفة، ورؤية فنية اخرى حيث سوف ننتقل الى عالم ثاني، عالم الاموات وحضورهم ومتابعتهم لتفاصيل حياتنا، جاء ذلك من خلال رؤية كاظم الى روح مليك وهو فوق يتوسط السماء الزرقاء المسودة، وسوف نشهد من خلال تلك الإنتقالة مدى ملائمة وانسجام اللغة التي اختارها الروائي مع انثيالات الاحداث وانتقالته الجديدة:
( كان زخم اللمعان الطاغي حولنا قد خفَّ كثيراً، وبدأت تستحوذ عليه، وتظهر في مساحات شاسعة منه، تشكيلات تشبه اصطفاقاً لخطوط او أعمدة تتمايل وتتلوى، وكان المشهد كفيلاً بأن يفقدني تركيزي أو يشتته على اقل تقدير، غير أن وجود مليك استمر متدفقاً بذات الأثر، واقوى بكثير من الذي يحدث حولي) ص 79 .
وتتعمق تلك العلاقة الروحية وتكبر بين كاظم وهو واحد من الاحياء، مع مليك وهو واحد الأموات الذين حرموا من تلك الحياة بسبب ما حدث في هذه البلاد من حروب وانفجارات، لأن سبب اصابته بهذا المرض الخبيث نتيجة تعرضه لحادث انفجار وهو داخل المركبة ووسط النيران والعصف الذي جعله يعيش حالة خوف وهلع يفوق قدرته كطفل يبلغ الاربع سنوات، ولم يتوقف الامر الى هذا الحد لأن ملك مع مجموعة من الاطفال الاموات بدأوا يحضرون أمام مرأى كاظم وهم يحملون رماح الملائكة، والتي تختلف عن الاسلحة الذي يستخدمها الانسان لقتل اخيه الانسان، تلك الرماح من اجل الخير والمحبة، ومحاربة الشر، أي أنهم يريدون الانتقام من الذين اوصلوهم الى هذا الحد.
ويبدأ كاظم متابعة خطواتهم خطوة خطوة، ونقلها الى جد مليك الذي بدأ يتعاطف ويتابع ما يحدث، وتدور تفاصيل كبيرة وواسعة وفق تلك اللغة والانسيابية.
ثم ننتقل الى هؤلاء الاطفال الاموات لنعرف حكاياتهم وكيف حدثت وفاتهم، وهي حكايات مؤلمة وحزينة، وصرخة استغاثة واضحة من اجل ان تقف تلك الحروب والانفجارات:
( مع أن الموت لا يتفق مع أي شكل من الأمنيات.. ومن غير الطبيعي هنا، ان نبارك- ونحن نقف في حضرة أرواح أزهقت بلا مبررات، إن كان لهذه الأفعال الدموية من مبررات- لأهل الضحايا، إل إذا كنا إزاء حالة هائلة مثل هذه!.) ص 275 .
وهكذا يكون الروائي ابراهيم حسين حسن من خلال روايته (رماح الملائكة) قد استخدم الادوات التي تدخل ضمن البناء الفني لصناعة الرواية الاستخدام الامثل الذي يحقق توازنها وانسجامها بفكرة وثيمة مختلفة.