عبد الكريم واكريم
ألمودوفار يكتب وصيته سينمائيا في “ألم ومجد”
يمكن لنا الجزم ومن دون مبالغة تذكر أن “ألم ومجد” يعد الفيلم الأكثر حميمية للمخرج الإسباني الشهير بيدرو ألمودوفار، إذ نتابع فيه معاناة المخرج السينمائي سلفادور مالو الذي لا نجد كبير عناء لنرى فيه ألمودوفار نفسه، هذا المخرج الذي تنهشه الأمراض ووهن منه الجسد ودخل في حالة إدمان على الهيروين واضطر للتوقف عن الكتابة والإخراج السينمائي لمدة ويعاني إضافة لكل هذا أزمات نفسية.
في هذا الفيلم الجد حميمي يدخل ألمودوفار في حالة مكاشفة ومصارحة ونقد ذاتي مع نفسه ومع جمهوره، إذ يُصرُّ على عرض سلبيات حياة المخرج ومن خلالها سلبيات حياته وتعثراته في الحياة وفي الفن.
في “ألم ومجد” يبدو الصدق والمكاشفة للنفس وللآخر حاضرين بكل قوة وبشكل فني ناضج، هنا نجد خرجا كبيرا وكأنه يكتب وصيته الأخيرة بشكل سينمائي على الشاشة، فيلم به شجن دفين وحزن شفاف يبدو في عيون شخصية المخرج من خلال أنطونيو بانديراس الممثل وليس النجم، وفي لحظة صدق يقول المخرج لممثله “لا أحب الممثلين الذين يبكون، البكاء سهل لكن الممثل الحقيقي هو الذي نشاهد الدموع في عينيه وهو يحبسها أن تسقط”، وهذا ما نراه حقيقة في أثناء أداء الممثل للمسرحية وفي عيون الصديق الذي يأتي ليشاهدها ليفاجئ بأنها تحكي مرحلة مهمة من علاقته بسلفادور مالو.
في أحد المشاهد الكوميدية في الفيلم يكشف ألمودوفار كيف خذل جمهورا كان ينتظره ليناقش معه فيلمه الكلاسيكي، وهنا وهو يسأل حول علاقته بالجمهور، يبدو وكأنه غير عابئ برأي الجماهير ولا حتى بإقبالها، وكأنه وصل لمرحلة النضج والعبقرية التي لم تعد تحتاج اعتراف الغير ولا لرأيه.
“عن الأبدية” وعبثية الحياة المعاصرة
وضمن القسم الرسمي خارج المسابقة عرض أمس أيضا فيلم “عن الأبدية” للمخرج السويدي الكبير روي أندرسون، والذي قدم من خلال لوحات شبه منفصلة لمواقف إنسانية مختلفة لشخوص لا تجمعها في الغالب أية علاقة درامية وصوت خارجي (فوا أوف) نسوي تُعاد فيه لازمة “شاهدت كذا…” يستعرض المخرج السويدي عبثية الحياة المعاصرة ولا معقوليتها ولا جدواها وبرودتها العاطفية والإنسانية ، وفي لحظات من الفيلم نجد أنفسنا وكأننا نتابع أسماكا داخل “أكواريوم” أو حيوانات مدجَّنة في حديقة للحيوان لا تستمتع بحياتها بقدر ما تعاني بشكل غير منطقي ولا عقلاني.
وكعادته في أغلب أفلامه فقد صَوَّر روي أندرسون فيلمه المُتَكون من لوحات عبارة عن شذرات مُصوَّرة بكاميرا غير متحركة وعبر لقطات ثابتة تدوم لبضع دقائق وكادرات ثابتة ومؤطرة بعناية فائقة في مشاهد لا تخطأ عين المتتبع بُعدها التشكيلي ولا كيف يوزع روي أندرسون شخوصه المهزومة بعناية وكيف يحركها بدقة لامتناهية بحيث لايصبح الممثل مجرد أداة في يد المخرج يستعملها ليقدم أفكاره من خلالها، ويمكن لنا أن نتذكر روبير بروسون في هذا السياق.
كين لوتش يستمر في رصد معاناة المهمشين في فيلم “عفوا، لم أجدكم”
في فيلمه الأخير “عفوا لم أجدكم” يعود المخرج الإنجليزي كين لوش إلى مواضيعه الأثيرة المتمثلة في معاناة الطبقات الكادحة والمسحوقة تحت نير الاستغلال الاقتصادي لمن هم أعلى منها طبقيا. وفي هذا الفيلم نتابع قصة أسرة فقيرة تناضل فقط من أجل حياة كريمة اعتيادية، إذ أن رب الأسرة يقوم بتوصيل الإرساليات بعد أن اشترى سيارة جديدة يشتغل بها لحساب شركة لكن صاحب الشركة لايرحمه وعند كل تأخيرأو تغيب عن العمل، مهما كان السبب عاجلا وضروريا، يخصم منه مقادير من المال، ليصل معه بعد أن تعرض لحادث اعتداء وسرقة إلى مبالغ كبيرة لايستطيع أداءها. إضافة لهذا نتابع في الفيلم المشكلات الاجتماعية للأسرة والتي أغلبها ناتج عن مشاكل اقتصادية وعن الحالة المتواضعة لها، إذ يعاني الإبن المراهق من مشكلات دراسية ينقطع على إثرها عن الذهاب للمدرسة وفي الوقت نفسه يحتقر عمل أبيه ومساره في الحياة فتنتج بين الإثنين مشادات ومشاحنات نتيجة ذلك والبنت الطفلة ذات العشر سنوات تعاني من اضطرابات في النوم وتتبول في السرير ليلا، أما الأم فتضطر للاشتغال ساعات إضافية في عمل جد مرهق ومقرف من دون مقابل مادي إضافي على تعبها ذاك.
على العموم يظل كين لوش أهم مخرج معاصر يستطيع الغوص في قضايا اجتماعية لأناس طحنتهم الآلة الرأسمالية وجعلت منهم عبيدا معاصرين لايفعلون سوى الدوران في ترسانتها الهائلة ليضخوا الأموال لها ويظلون في شقاء طوال عمرهم، وهو يفعل هذا بسلاسة وبشكل يبدو أول الأمر بسيطا لكنه عميق في الوقت نفسه ، إذ نشاهد في هذا الفيلم كما كل أفلامه الأخرى شخوصا من لحم ودم أمامنا على الشاشة ونتابع معاناتهم الحقيقية من دون مساحيق ولا ادعاء فني مبالغ فيه.
«جوكر».. تلك الشخصية الدوستويفسكية
«جوكر» فيلم من بين تلك الأفلام التي كُتبت بشكل جيد وهو فيلم شخصية وقد استطاع خواكين فونيكس أن يحمل الفيلم على أكتافه بشكل لا يُتصور، إذ لايمكن لنا أن نتخيل ونحن نشاهد الفيلم ممثلا آخر في مكانه وبنفس قدرته على تقمص هذه الشخصية المهزومة والذي يلعب بها القدر ألعوبته القذرة.
«جوكر» ليس قاتلا بالفطرة بل إنَّ كل الظروف القاسية المحيطة به تكاتفت لتجعله كذلك، وهو لايخطط لجرائمه أبدا بل يجد نفسه مضطرا ليرتكبها.
منذ البدء تتوالى الضربات القاسية عليه هو البريء الذي لانملك إلا أن نتعاطف معه، بل ومع مرور لحظات الفيلم نجد تبريرات للبشاعات التي يرتكبها، وهنا منبع الحالة غير المرتاحة التي يتعمد المخرج أن يضعنا فيها كمشاهدين، إذ ونحن نتعاطف مع الجوكر نعلم في الوقت نفسه أن مايفعله ليس أمرا سليما ولا مبررا، وهكذا وكلما اقتربت نهاية الفيلم وازدات حالته تأزما ازداد إحساس التأزم لدينا أيضا كمشاهدين وكأننا نشاركه بتعاطفنا جرائمه.
«جوكر» شخصية دوفستوفسكية بامتياز، إذ تحمل خصوصيات شخوص الروائي الكبير ولها قرابة دم معها، فيه شيء من بطل «الجريمة والعقاب» راسكولنيكوف، وفيه أيضا من الشخصية الرئيسية لرواية «القبو» للروائي الكبير نفسه ، وكثيرا من تلك الروايات التي تجعلنا نتعاطف مع شخوصها ونبرر مايفعلونه ويرتكبونه برغم أننا نعلم علم اليقين أن ذلك ليس أخلاقيا بالمرة وأنها شخوص مريضة ومهزوزة نفسيا.
يلعب معنا المخرج تود فيليبس والسيناريست سكوت سيلفر بشكل جيد إذ يخفيان أشياء تتعلق بهلوسات الجوكر وتخيلاته واستيهاماته ليخرجاها كما يُخرج الساحر ألعابه من قبعته السحرية في الوقت والزمن الذي لاننتظر كمشاهدين، ليُربكانا ويُزعزعا قناعاتنا ويكسرا انتظاراتنا ويُردياها هباء في كثير من لحظات الفيلم، وهذا يقع أكثر من مرة بداية من قصة الحب الرومانسية البريئة التي تنطلق بعد أول عملية قتل نشاهدها كاملة يقوم بها الجوكر، لنعلم بعد ذلك أننا سرنا وراء سراب وأن قصة الحب مجرد وهم في ذهنه المريض وأن المرأة جارة اعتيادية ستكون من بين ضحاياه بدورها بعد ذلك، لكن ذكاء الكتابة والإخراج نأيا بِنا عن مشاهدة هذه الجريمة التي قد تجعل تعاطفنا معه يَقِلُّ أو ينتفي نهائيا، عكس الجرائم الأخرى التي شاهدناها والتي كانت «مبررة» وصورها لنا المخرج وكأنها دفاع عن النفس أو انتقام لكرامة مجروحة و نَفس جريحة مُهانة. وقد كانت الطريقة والأسلوب الذي جعلنا به المخرج نعرف أن كل ماشهدناه قبلا بخصوص العلاقة العاطفية للجوكر مع المرأة الشابة كان وهما وخيالا جد ذكية، وقد تمُر مرور الكرام لمن لم يكن جِدَّ مركز فيما يقع على الشاشة، وهنا يمكن لنا تذكر أفلام مثل الحاسة السادسة على سبيل المثال لكن بشكل جد سريع . وفي سياق اللعب الإخراجي الذكي نفسه والكتابة المطرزة بعناية، يجعلنا المخرج نتوهَّم مع اقتراب الفيلم إلى نهايته أن الجوكر يتهيأ للانتحار مباشرة على الملأ في البرنامج التلفزيوني للمنشط الكوميدي الشهير (يلعب دوره روبيرت دينيرو بشكل جد مقنع) ، لكن كل هذا ينقلب رأسا على عقب ليرتكب الجوكر واحدة من بين «أهم» جرائمه التي ستكرسه «بطلا شعبيا» سلبيا وتُلهب حماسة محبيه ومريديه لِيُشعلوا على إثر ذلك مدينة «غوتام» لهيبا ويدخلوها في فوضى عارمة وعنف لايُبقي ولايذر، وقد صور المخرج كل هذا كثورة على نظام رأسمالي بشع لايمكن لِاستغلاله وظلمه سوى أن يُنتج مثل هذه الشخوص غير السوية ويكون السبب في اندلاع ثورات وهبات لمقهورين مُهانين ومُهمشين. وهنا يكمن البعد الآخر للفيلم كونه فيلما سياسيا بامتياز، لكن من دون خطب ولا شعارات زاعقة، هو فقط فيلم يُنذر بالكارثة ويتنبأ بها ويحذر منها بشكل فني غير مباشر ولا فج، إن ظلت الأوضاع على ماهي عليه.
يبقى الجدير ذكره أن الشخصية المهمة والمؤثرة جدا في أحداث الفيلم وفي تطور شخصية «جوكر» هي أمه التي سيقلب اكتشافه لكذبها المرضي كل كيانه وسيدفعه للمرور للسرعة القصوى في هذيانه وجنونه وجرائمه إلى درجة أن يقتلها هي أيضا في لحظة عتاب هذياني وهي مُسجاة على سرير المستشفى.
يمكننا الجزم أن المخرج قد نزل بمدينة «غوتام» الخارجة من الرسوم الكارطونيةB.D إلى مدينة واقعية تشبه نيويورك أو هي نييورك ذاتها، وب «الجوكر» من شخصية كرطونية شريرة إلى إنسان من لحم ودم اضطرته الظروف السيئة والمُهينة لكرامة الإنسان كي يرتكب أفعالا لايقبلها المجتمع ويعدها شرا وخروجا على الأخلاق المتعارف عليها. وفي الوقت نفسه تم الحفاظ على ذلك الزمن المبهم برغم نوع من الإحالة على ثمانينيات القرن الماضي ليصلح الفيلم لكل زمان ومكان، وليظل فيلما سيعيش لسنوات طوال.
المرأة الباكية”.. السينما حينما تنبش في فظاعات الماضي الأليم
يمزج المخرج الغواتيمالي خايرو بوستامانتي في فيلمه “المرأة الباكية” بين الأسطورة والواقع وهو يتناول قضية سياسية جد شائكة وهي محاولة شعب المايا في غواتيمالا فضح ما تعرض له من قمع وقتل وإبادة بداية الثمانينيات من القرن الماضي على يد ديكتاتور والمطالبة بالقصاص منه، وبرغم أنه يقدم هنا باسم متخيل فإنه يحيل على الديكتاتور إيفرين ريووس.
موضوع كهذا كان يغري بتناول مباشر لقضية ساخنة لكن المخرج اختار أن يتطرق لتيمته هذه بشكل فني متميز بحيث نرى كل الأحداث من وجهة نظر أسرة الديكتاتور المتقاعد والمريض والمتهالك ومن داخل بيته، هو الذي نظن بداية أنه يتوهم رؤية أشياء وأشباح، خصوصا أن أعراض مرض الزهايمر قد بدأت تظهر عليه، هو المقيم صحبة أسرته المكونة من زوجته وابنته الطبيبة وابنتها الصغيرة والحرس المدجج بالسلاح، لكن الأمور ستتغير بقدوم امرأة هندية شابة من المايا، لتُعوض نقصا حدث بسبب ذهاب مجموعة من الخدم المايا نتيجة الاحتجاج الشديد الذي يتعرض له الدكتاتور قرب باب بيته ، هذه المرأة التي سيتبين لنا كمشاهدين وبالتدريج غرابة تصرفاتها خصوصا فيما يتعلق بعلاقتها بحفيدة الديكتاتور، لنعلم في الأخير أنها مجرد شبح “المرأة الباكية” التي قتلها الديكتاتور هي وأطفالها الصغار حينما كان في الحكم وجاءت لتنتقم منه، ولن تهدأ حتى يموت كل من شارك في المذبحة التي ذهبت ضحيتها هي وأطفالها وجزء من شعبها.
وقد استطاع المخرج الغواتيمالي أن يجر نوعا سينمائيا اعتدنا أن نراه كسينما للرعب والماورائيات نحو منطقة أخرى مختلفة وهي السينما السياسية بكل ما تفرضه من مباشرة، وقد نجح في ذلك بامتياز خصوصا أنه استطاع اللعب بهذين النوعين ولم يمنحنا كل أوراقه مرة واحدة ضابطا أدواته الإبداعية ومتمكنا منها في فيلمه هذا.
”أغنية بلا عنوان” البيرو في سنوات الفوضى واللاستقرار السياسي
تدور أحداث فيلم “أغنية بلاعنوان” للمخرجة البيروفية ملينا ليون في أثناء سنوات بداية الثمانينيات حيث كانت البيرو تعيش أزمات اقتصادية وانتفاضات ضد النظام الحاكم يتزعمها تنظيم “الدرب المضيء” الشيوعي الماوي ، ومن خلال هذه الخلفية التاريخية نتابع حكاية أم شابة في بداية عشرينياتها يُسرق طفلها الرضيع في عيادة وهمية من طرف عصابة تتاجر في الأطفال بعد أن يتم إيهامها بأن العيادة تُقَدِّم خدمات مجانية للنساء الحوامل كي يلدن بها، وفي بحثها المضني عن طفلها الرضيع تلتقي بصحفي يشتغل بجريدة مهمة فيقرر هذا الأخيرمن باب التعاطف بداية الأمر أن يتبنى قضيتها التي ستقوده إلى اكتشاف وفضح مافيا تتاجر بالأطفال الرُّضَّع وتبيعهم خارج البيرو.
الفيلم مصور باللونين الأبيض والأسود الأمر الذي أضفى عليه مسحة من الحزن ومنح الصورة جماليات شكلية تكاملت مع التيمة المتناولة، بحيث استطاعت المخرجة ميلينا ليون في فيلمها الأول هذا، الذي كان عرضه الأول في مسابقة نصف شهر المخرجين بمهرجان كان السينمائي في دورته الأخيرة، أن توصل أحاسيس الغبن والقهر والظلم الذي تعرضت لها الأم الشابة والأمهات الأخريات اللواتي تم اختطاف أطفالهن منهن بشكل حقير ولا إنساني وكيف أن “العدالة” البيروفية آنذاك لم تكن تأبه بِرَدِّ الأبناء إلى أمهاتهم وأنها لم تتحرك لِلزَّجِّ ببعض من أفراد مافيا الأطفال في السجن سوى لأن جريدة كبيرة ومؤثرة شعبيا أفردت للقضية صفحتها الأولى، وحتى حينما يطلب الصحفي من القاضي متابعة التحقيق لكي يتم استرداد الأطفال من الخارج يجيبه هذا الأخير “لماذا لاترى الأمور من وجهة نظر مختلفة، فالأطفال سيعيشون ربما أفضل بعيدا عن أمهاتهم الفقيرات.”.
“أغنية بلا عنوان” فيلم إنساني تتعاطف فيه المخرجة مع سيدات مغبونات ولاحول لهم ولاقوة في مواجهة ظلم وقع عليهن، وهو فيلم يحمل أحاسيس رقيقة وحزنا مشوبا بالرفض وعدم تقبل واقع مزر وغير إنساني. وفي مشهد جميل يقوم فيه عضو ملثم منتم لتنظم “الدرب المضيء” بتفجير قنبلة صغيرة ليتمكن من تفريق تجمع مهرجاني ليُوزِّع منشورات ضد النظام وسط جمع من الناس، لتكتشف الأم الشابة بشكل سري وبنوع من الدهشة ونحن معها كمشاهدين أن الصحفي المتعاطف معها هو من فعل ذلك وأنه منتم للتنظيم المحظور.
”الأب” دراما كوميدية عائلية
في فيلم “الأب” للمخرجين البلغاريين بيتر فالجانوف وكريستينا جوروزيفا نتابع قصة أب وابنه مكتوبة بشكل جيد ومُؤدَّاة من طرف ممثلين مُتمكِّنَين يحملان الفيلم على كتفيهما من البداية وحتى آخر لقطة فيه. تموت الأم ليتوهم الأب أنها مازالت تتواصل معه عن طريق قوى خارقة للعادة وللطبيعة، لكن الإبن العقلاني يرفض توهمات أبيه ويفعل ما بوسعه لكي يثنيه عن الاستعانة بمشعوذين يوهمون الناس بإمكانية التواصل مع الموتى من أقربائهم، لكن الأب يزداد تَمَسُّكا بأوهامه كلما ازداد الإبن إصرارا على إقناعه بعكسها، خصوصا حينما تهرع إليهما جارة صديقة للأم وهي ترتجف من الخوف مدَّعية أن هذه الأخيرة تتصل بها من العالم الآخر عبر الهاتف. ومن خلال لحظات اعتمد فيها المخرجان كوميديا موقف راقية ضبطا لحظاتها بشكل جيد، لم تدع جمهور الجونة الحاضر في القاعة أن يتماسك نفسه ويتفاعل بالضحك بين الفينة والفينة الأخرى، الأمر الذي أنقذ الفيلم من رتابة كانت ربما ستجره لزاوية أخرى بنظرة مختلفة، كون الفيلم ينسف خرافات الماورائيات بشكل سلس ومن دون خطاب مباشر ولا وعظ ولا إرشاد. وقد نسج المخرج والمخرجة شخصيتين تحملان طابعا إنسانيا واضحا للعيان من خلال علاقة جد معقدة بين أب وابنه تتجاذبهما مشاعر الحب والرفض واللوم ، شخصيتان مختلفتان في كل شيء لكن يجمع بينهما حب عميق ، وفي مشهد أخير جميل بعد أن يستطيع الإبن أن يثبت بالدليل القاطع لأبيه أن ما يعتقده هو مجرد أوهام ، يعترف هذا الأخير بإحساسه بالذنب ناحية موت الأم ويعد نفسه مسؤولا بشكل غير مباشر عن موتها ، كونها أجرت معه اتصالا هاتفيا قبل وفاتها بقليل بعد إجراء عملية جراحية ولم يكن هو مباليا بمصيرها بل خاطبها بألفاظ جارحة وتمنى لها الموت.
“الأب” فيلم إنساني بكل ما في الكلمة من معنى ويحمل طابع تلك الأفلام التي تأتينا من أوروبا الشرقية بين الفينة والفينة الأخرى حاملة نفحات السينما الجيدة والمختلفة.