عبير بشير
ربما يظن أردوغان نفسه، القيصر بوتين الذي أعلن عن التدخل العسكري الجوي لبلاده في سورية بطائرات السوخوي، قبل الربع ساعة الأخير من سقوط نظام بشار الأسد…وقام بعملية إنقاذ للأسد.
فأردوغان عندما يعلن عن بدء إرسال قوات تركية إلى ليبيا، يريد أن يكرر نفس التاريخ، ويبقى أحد أوجه الغموض بعد موافقة البرلمان التركي على غزو ليبيا، تحت غطاء مساندة حكومة الوفاق في مواجهة الجيش الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر الذي يتأهب للسيطرة على العاصمة طرابلس، هو حجم القوات التي سترسلها أنقرة إلى ليبيا، فتركيا ليست قوة عظمى، ولا يوجد لديها إمكانات جوية أو بحرية يجعلها تصل إلى ليبيا من دون انكشافها في البحر المتوسط أو في الأجواء المتوسطية التي لا يمكن للطيران التركي عبورها من دون عمليات تموين جوية مستمرة. أم ستكتفي أنقرة بإرسال مستشارين عسكريين، وتدريب مقاتلي حكومة السراج وتوفير المعدات، بما في ذلك الطائرات بدون طيار!. بعدما وقعت مذكرة التفاهم بين تركيا وحكومة الوفاق في ليبيا بقيادة فايز السراج في وقت سابق، حول التعاون الأمني والعسكري وترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا – ليبيا الدولة غير المتشاطئة مع تركيا، ولا حتى متشاطئة مع قبرص التركية، لتشكل مدخلاً قانونياً لتدخل تركي واسع في ليبيا، واستعادة الأمجاد العثمانية الغابرة.
فبعد مضي أكثر من ثلاثة قرون من الاستعمار العثماني لليبيا، تتهيأ أنقرة الآن للعودة رسميًا إلى البلاد من بوابة فايز السراج، ويستدعي أردوغان تاريخاً عثمانياً عندما يقول:
«ها نحن بصدد اتخاذ خطوات جديدة ومختلفة في كل من ليبيا وشرق البحر المتوسط. ونأمل في أن يحقق جنودنا في شرق المتوسط ملاحم بطولية كتلك التي حققها خير الدين بربروس».: وبربروس هو «أول قائد للأسطول البحري العثماني، وأحد الرموز التي ساهمت في تأسيس الإمبراطورية العثمانية.. ففي العام 1502، بدأ وشقيقه عروج بمحاولات فرض السيطرة على البحر المتوسط، بعد تلقيهما الدعم من الدولة العثمانية، فأحكما السيطرة على الجزائر بعد سلسلة من المعارك ضد الغزاة الإسبان والجنويين». وحقق بربروس انتصارات كبيرة تحت راية الدولة العثمانية، في شمال إفريقيا، ومياه المتوسط، ضد كل من إسبانيا وجنوة وفرنسا. وما زال الرئيس التركي مسكوناً بفكرة التمرد على اتفاقيتي سيفر 1920 ولوزان 1923 اللتين أدتا إلى خنق تركيا داخل حدودها، وقد ربط أردوغان التدخل التركي في ليبيا بهاتين الاتفاقيتين، عندما أعلن أن «مذكرتي التفاهم مع حكومة السراج تغيران الوضع السيئ لاتفاقية سيفر». وتسعى تركيا جاهدة، عبر مسارات مختلفة، للاستفادة “قدر الإمكان” من الأزمة الليبية، للخروج بحزمة مكاسب تمكنها من رسم خريطة البلد الغني بالنفط، على نحو يخدم مصالحها. وتضع نصب عينها الثروات الضخمة من النفط والغاز في المياه الإقليمية الليبية، وضمان حصة منها بدعم من ميليشيات جماعة الإخوان، وتعلل ذلك بحماية «جغرافيتها وإرثها القديم».
كما يتعلق التدخل التركي في ليبيا أكثر بالموازين الإستراتيجية في صراع القوى الدائر في شرق البحر المتوسط. فبالنسبة لأنقرة، يتمثل أسوأ السيناريوهات في أن تتوصل اليونان مع قبرص اليونانية إلى اتفاق محتمل للمشاركة في مناطق السيادة البحرية. وهذا الأمر من شأنه أن يهدد حقوق ومصالح تركيا والقبارصة الأتراك في مناطق السيادة البحرية المعروفة أنها غنية بالموارد الهيدروكربونية. كما أن تركيا تحاول أن تستولي على المياه الإقليمية الليبية بشكل كبير لمواجهة النفوذ اليوناني جنوب غربي جزيرة كريت، التي تعتبر بوابة شرق البحر الأبيض المتوسط. وتطويق مصر.
الخشية من «سورنة» ليبيا، وإعادة إنتاج واحدة من أسوأ تجارب العرب في القرن الحادي والعشرين، وهي التجربة السورية، وحروب الوكالة، كانت وراء التحركات الأوربية الأخيرة، والتي هدفت إلى استعادة الملف الليبي، من أجل ضبط تناقضاته، والحيلولة دون انفجاره، وتندرج اللقاءات التي عقدها رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي بالمشير حفتر واجتماع رئيس حكومة الوفاق فايز السراج بمسؤولين أوروبيين في بروكسل في هذا الإطار.
وكذلك جاء اجتماع وزراء خارجية مصر وفرنسا وإيطاليا وقبرص واليونان في القاهرة، لبحث الأزمة الليبية، والذي دعا كافة أطراف الأزمة إلى العودة «المسار السياسي»، حيث دعموا مسار مؤتمر برلين المرتقب برعاية الأمم المتحدة، ولكن رفضوا بشدة التدخلات التركية في طرابلس.
اتساع الفتق على الرتق، وتعدد الطهاة في المطبخ الليبي، وتدفق السلاح على ليبيا، يجعل من غير المحتمل أن يثمر مؤتمر برلين عن تسوية سياسية، في ظل تباين مصالح أنقرة والقاهرة وموسكو، والدول الأوروبية بشأن طبيعة التسوية في ليبيا، وهو ما يرجح فرضية بأن أطراف الصراع لن تقبل بأي تسوية سياسية إلا بعد حدوث أحد متغيرين، هما: نجاح الحملة العسكرية للجيش الوطني الليبي بقيادة المشير حفتر في الاستيلاء على طرابلس بعدما نجحت في وضع يدها على سرت، وبالتالي نجاح قوى الشرق في فرض رؤيتها للحل.
المتغير الآخر هو عدم قدرة كلا الطرفين: المشير حفتر، أو حكومة السراج على تحقيق نصر عسكري ناجز، بسبب نجاح التدخل التركي العسكري في الساحة الليبية، واستعادة بعض التوازن على المسرح الليبي، بحيث لا يوجد رابح واضح أو خاسر واضح، وهنا يمكن الحديث عن قبول الأطراف المتنازعة في الجلوس إلى طاولة المفاوضات، والتوصل إلى حل مقبول نسبياً، للحد من الخسائر الموجعة لكل الجهات.
*عن صحيفة الأيام الفلسطينية