على مستوى الزمن والكم والنوع والموقف
بغداد ـ الصباح الجديد:
شهد العراق منذ مطلع شهر أكتوبر/ تشرين الأول الحالي موجة مظاهرات خرج فيها الآلاف في العاصمة بغداد وعدد من المدن الأخرى، احتجاجا على استشراء الفساد والبطالة وسوء الخدمات العامة. ومع أن قوات الأمن حاولت فضّ تلك المظاهرات باستخدام خراطيم المياه، والغاز المسيل للدموع، لكنها لجأت بعد تصاعدها إلى إطلاق الرصاص المطاطي والحي، مما أسفر عن وقوع أكثر من مئة قتيل وآلاف المصابين خلال الأيام الستة الأولى منها.
تزامن اندلاع هذه الاحتجاجات مع مرور عام كامل على تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة عادل عبدالمهدي، اتسم بالتلكؤ في التعامل مع ملفات مهمة ورثتها من حكومات سابقة، وكان من المتوقع أن تعالجها، وخصوصا مكافحة الفساد. وهذا أبقى الحال كما هو عليه، إن لم يزده سوءاً، خلال السنة الأولى من عمر الحكومة ربما باستثناء التحسن النسبي في إمدادات الطاقة الكهربائية.
فقد ظل المواطن العراقي يعيش حياته اليومية وسط استشراء الفساد الإداري والاقتصادي، حسبما رصدته منظمات دولية مثل منظمة الشفافية التي صنفت العراق باعتباره أحد أبرز دول العالم التي ينخرها الفساد.
وكان العراقيون وخصوصا فئة الشباب وخريجي المعاهد والجامعات يتطلعون إلى تحقيق تقدم في مساعي معالجة تحديات كبرى مثل: تردي الوضع الاقتصادي، وانحدار مستوى الخدمات، وتفاقم البطالة، وتعثر جهود إعادة الإعمار، واستمرار صيغ المحاصصة بأشكالها، وارتفاع وتيرة التدخلات الخارجية.
احتجاجات واسعة
كانت هذه الاحتجاجات، الأكثر اتساعاً مقارنة بسابقاتها في ساحة التحرير في العاصمة، أو تلك التي شهدتها مدن أخرى في الجنوب على وجه الخصوص. وتتسم بأن معظم المشاركين فيها شباب من مناطق فقيرة مهمشة ذات غالبية شيعية، فتحوا أعينهم على حكومات ما بعد 2003. ومن الواضح أنها مظاهرات عفوية لا علاقة للأحزاب والكتل السياسية وحساباتها بها، وتنبع مطالب المشاركين فيها من معاناتهم المعيشية اليومية.
ومع أن معظم المشاركين من الشيعة لكن ليس ثمة ما يشير إلى أي صبغة طائفية للمظاهرات.
وتتراوح أسباب عدم مساهمة السنة والأكراد في هذه الانتفاضة بين الموقع الجغرافي لمناطقهم وطبيعة الأحداث التي مرت بها. ويعتقد على نطاق واسع أن انضمام سكان نينوى والمحافظات الواقعة غربي البلاد (ذات الغالبية السنية) قد لا يعود بالنفع على انتفاضة بغداد (المختلطة) والجنوب (ذي الغالبية الشيعية). ويعود ذلك إلى الظروف التي مرت بها تلك المحافظات إبان سيطرة ما يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية، خصوصا مع كثرة التصورات النمطية والاتهامات الجاهزة من قبيل: دور الإرهاب وبقايا «داعش» أو موالاة نظام البعث السابق.
أما إقليم كردستان فله خصوصيته نظرا لتمتعه بحكم ذاتي واسع الصلاحيات.
اندلعت مظاهرات الأول من أكتوبر مباشرة بعد التعامل الفظ مع المشاركين في اعتصامات ساحة التحرير في بغداد، خصوصا الجامعيين المطالبين بحقوق مهنية.
ومما زاد من زخمها وارتفاع مستوى التعاطف والتضامن معها، طريقة التعامل العنيفة دون الأخذ بالحسبان أنها شبابية عفوية واسعة النطاق لا جهة منظمة وراءها يمكن تحييدها أو المساومة معها. وما أثبت جديتها وتأثيرها الإصرار الرسمي على إجراءات مثل حجب وسائل التواصل الاجتماعي، وقطع الإنترنت، ومحاولة لجم وسائل الإعلام.
لكن العامل الذي أدخل المزيد من التعقيد في الموقف والارتباك في التعامل الرسمي مع الاحتجاجات دخول عناصر مارست العنف بحرق منشآت عامة وتدمير بعضها، ومجموعات مسلحة نفذت هجمات وأطلقت النار بكثافة على المتظاهرين.
ويظهر تسجيل فيديو انتشر في وسائل التواصل الاجتماعي إطلاق نار كثيف من مكان ما يستهدف الشبان المتظاهرين والقوات الأمنية معاً في ساحة التحرير. وهذا مؤشر واضح على خطورة الموقف.
أما الاستجابة المتمثلة بالخطاب الرسمي وشبه الرسمي، فلم تأتِ بمستوى ما يجري إذ لم تتضمن خطوات واضحة نحو إجراء إصلاحات، بل بدت منفصلة عن الواقع وبعيدة عن الإقناع. والحلول الآنية التي صدرت عن المسؤولين الكبار لم تكن كافية لتلبية الحاجة الفعلية للإصلاح الموعود الذي يتطلب خطة عملية لتطمين مطالب المتظاهرين وحتى اعلن رئيس الوزراء استقالته وتداعى مجلس النواب الى تغيير بعض القوانين التي تهيء لانتخابات مبكرة وحكومة جديدة، مثل قانون مفوضية الانتخابات وقانون الانتخابات والذين على الرغم من التصويت عليهما الا ان كثيرين ما يزالون يجدونهما لا يستوفيان مطالب الجماهير.
ادت التظاهرات في البلاد الى سقوط أكثر من 490 قتيلا وأصيب أكثر من 17 ألف بجروح ومن بينهم 3 آلاف «إعاقة» جسدية ، فضلاً على اعتقال العديد من المحتجين وأيضاً قطع شبكة الانترنت.
وتعتبر هذهِ الاضطرابات الأكثر فتكا في العراق منذ انتهاء الحرب الأهلية ضد تنظيم الدولة الإسلامية في كانون الأول/ديسمبر 2017، وقد احتشد الآلاف في الشوارع احتجاجا على الفساد والبطالة وتدهور الخدمات العامة.
وندّد المتظاهرون أيضاً بالتدخل الإيراني في العراق وحرق العديد منهم العلم الإيراني. وواجهت القوات الأمنية هذه المظاهرات بعنف شديد واستعملت قوات الأمن صنف القناصة واستهدف المتظاهرين بالرصاص الحي.
الامر الذي أدى الى انسحاب المتظاهرين بعد ستة أيام من بدء التظاهر في 1 تشرين الأولن غير ان الانسحاب لم يدم طويلا، اذ تجددت التظاهرات والاشتباكات في يوم الجمعة 25 تشرين الأول مع القوات الأمنية. وكما أسلفنا سقط عشرات القتلى والجرحى وكانت أكثر أيام الاحتجاجات دموية، خاصة في محافظة ذي قار التي جرت فيها مجزرة الناصرية، والتي أدّت إلى إعلان رئيس الوزراء العراقي نيته تقديم استقالته.
وفي 30 تشرين الثاني قدم عادل عبد المهدي استقالته من رئاسة مجلس الوزراء استجابة لطلب المرجع الديني علي السيستاني، وتمهيدا لإجراء انتخابات جديدة تعمل على تهدئة الأوضاع في البلاد.
ولقد أعلنت مفوضية حقوق الإنسان في العراق، ارتفاع حصيلة ضحايا الاحتجاجات خلال الشهرين الماضيين إلى 490 قتيلا وأكثر من 20 ألف جريح.
كما أعلنت المفوضية عن اختطاف 166 شخصا من المتظاهرين ومن ساحات الاحتجاج، من دون أن يعرف مكان وجودهم حتى الآن
وهنا تذكير ببعض الأحداث التي شهدها العراق منذ الأول من تشرين الأول/أكتوبر.
تجمّعات عفوية
في 1 تشرين الأول/أكتوبر، تظاهر أكثر من ألف شخص في شوارع بغداد وعدة مدن في جنوب العراق.
وانطلقت أول تظاهرة حاشدة ضد حكومة عبد المهدي بعد نحو عام من تشكيلها اثر دعوة على شبكات التواصل الاجتماعي.
وتجمّع المتظاهرون في ساحة التحرير بالعاصمة، في حراك بدا عفويًا بينما لم تصدر دعوة صريحة من أي جهة سياسية أو دينية للتظاهر.
وفرّقت شرطة مكافحة الشغب الحشود باستخدام خراطيم المياه والغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي قبل استخدام الرصاص الحي الذي سمع دويه في بغداد.
نددت وزارة الداخلية بـ»مندسين» تغلغلوا بين المتظاهرين سعيا إلى «نشر العنف».
وقال الرئيس برهم صالح ان «التظاهر السلمي» هو «حق دستوري».
اتساع رقعة التظاهرات
في 2 تشرين الأول/أكتوبر، انتشرت التظاهرات في أنحاء جنوب العراق مع مشاركة الآلاف، وحاولت الشرطة تفريق الحشود عبر إطلاق الغاز المسيل للدموع والرصاص الحي.
وأطلقت شرطة مكافحة الشغب الرصاص الحي خلال التظاهرات التي خرجت في بغداد وفي مدينتي النجف والناصرية (جنوب).
ولاحقًا، دعا الزعيم الشيعي مقتدى الصدر أنصاره إلى تنظيم «اعتصامات سلميّة» و»إضراب عام».
أما السلطات، ففرضت حظراً للتجول في بغداد وعدة مدن أخرى.
مواجهات في بغداد
في 3 تشرين الأول/أكتوبر، وقعت صدامات عنيفة عندما تحدّى آلاف المتظاهرين حظر التجوّل وخرجوا في تظاهرات في بغداد ومدن جنوبية.
وفي العاصمة، أطلقت قوات الأمن الرصاص الحي في الهواء وعلى الأرض من رشاشات مثبّتة على مركبات عسكرية.
وأغلقت الحشود الشوارع وأشعلت الإطارات أمام مقار حكومية في عدة مدن بينها ميسان والنجف والبصرة وواسط وبابل.
وقُطعت الإنترنت عن غالبية من مناطق البلاد في إجراء اعتبرته منظمات حقوقية متعمّداً لمنع تغطية الاحتجاجات.
وفي أول خطاب منذ بدء الاحتجاجات، دافع عبد المهدي عن منجزات حكومته وطلب منحها مزيداً من الوقت لتطبيق أجندة الإصلاحات.
وحذّر من أن الأزمة الحالية قد «تدمّر الدولة برمتها».
دعم من السيستاني
في 4 تشرين الأول/أكتوبر، اتّهمت قوات الأمن «قناصة مجهولين» بإطلاق النار على المتظاهرين وعناصرها في بغداد.
والجمعة، أكد المرجع الديني الشيعي الأبرز آية الله علي السيستاني دعمه مطالب المتظاهرين.
ودعا مقتدى الصدر الحكومة إلى الاستقالة والى اجراء «انتخابات مبكرة تحت إشراف الأمم المتحدة».
تدابير اجتماعية
في الخامس من الشهر، فرقت قوات الأمن تجمعا كبيرا في العاصمة، حيث تم رفع حظر التجول. واجه المتظاهرون الذخيرة الحية والغاز المسيل للدموع.
في السادس منه، أعلنت الحكومة عن تدابير اجتماعية تتراوح ما بين مشاريع اسكان ومساعدات إلى الشباب العاطل عن العمل.
في السابع من الشهر، اقر الجيش بـ»الاستخدام المفرط للقوة» في الاشتباكات مع المحتجين في مدينة الصدر ذات الغالبية الشيعية حيث قتل 13 شخصا مساء.
اتهم المرشد الأعلى في إيران اية الله علي خامنئي «الأعداء» بـ»زرع الفتنة» بين طهران وبغداد.
ودعا الرئيس صالح القوى السياسية إلى «الحوار» دون «تدخل من الخارج».
الجلسة الأولى للبرلمان
في الثامن من الشهر، بعد ليلة هادئة في بغداد، تم رفع القيود الأمنية حول المنطقة الخضراء. وشارك أكثر من 200 نائب في جلسة استثنائية، هي الأولى منذ بداية الاحتجاجات.
وأجرى عبد المهدي عدة اجتماعات مع رئيس البرلمان ووزرائه وشيوخ العشائر والسلطات القضائية.
157 قتيلا
في 22 تشرين الأول/أكتوبر كشف تحقيق رسمي أن حصيلة قتلى أسبوع من التظاهرات بلغت 157 قتيلا، غالبيتهم قتلوا في بغداد.
وأعلنت الحكومة إقالة عدد من القادة الأمنيين.
موجة تظاهرات جديدة
في 24 تشرين الأول/أكتوبر تجددت التظاهرات وقد نزل المئات إلى شوارع بغداد وشهدت مدينتا الديوانية والناصرية في جنوب العراق تحركات احتجاجية.
في 25 منه شارك الآلاف في التحركات الاحتجاجية وقد احتشدوا قرب المنطقة الخضراء في بغداد.
وأطلقت قوات الأمن الغاز المسيل للدموع لإجبار المتظاهرين على التراجع وقتل شخصان.
وفي مدينة العمارة في جنوب البلاد قُتل محتجون لدى محاولتهم مهاجمة مقر لـ»عصائب أهل الحق»، أحد أبرز فصائل «قوات الحشد الشعبي».
وفي الناصرية حيث أحرق المحتجون مبنى محافظة ذي قار كانت حصيلة القتلى أكبر.
ومساء أعلنت المفوضية العراقية لحقوق الإنسان أن الحصيلة بلغت 24 قتيلاً في صفوف المحتجين في بغداد وجنوب البلاد.