تجليات الذات في «انتصاف الليل البغدادي»

علوان السلمان

الخطاب السردي، تجليات الذات المنتجة للكشف عن صيرورتها من خلال افراز الوعي الجدلي القائم على التكنيك الفني والتقنية الجمالية بأبعادها المستفزة للذاكرة. والذي شهد انعطافات وتحولات تتوافق والتحول الحضاري القائم على الثنائية الجدلية التي تشكل بمحتواها الهام المنتج الذي يمتلك قدرة على فهم الحياة بمكنوناتها وقوانينها للتعبير عن مشكلات الانسان الكونية..
وباستحضار النص السردي(بغداد وقد انتصف الليل فيها)..المدونة السيرية الجامعة ما بين الذاتية والمكانية(سيرة مدينة) مع تركيزها على تيمة حاضرة بكل مفاصلها الحياتية التي تحمل وحدتها الموضوعية وتكاملها الدرامي وامتداداتها المشهدية التي تشكلت من ثمان وعشرين مشهدا مع نصوص موازية مضافة للعنوان العلامة السيميائية الدالة والايقونة التي تشكل العتبة الاولى من عتبات المتن النصي الموازية التي بمضمونها يتراءى الزمن الاجتماعي الذي تكشف عنه اللوحة الفنية التي احتلت نصف الغلاف الخارجي..وهي تجمع ما بين الذات المنتجة والذات الجمعي الآخر والمقصود المتني(بغداد) الشامخة بنخيلها والمكبرة بمساجدها..فضلا عن النص الموازي المضاف الذي شكل تعريفا كاشفا عن نبض النص وتشكلاته (بغداد وقد انتصف الليل فيها ..رواية سيرة شخصية وسيرة مكان يتراوح بين تونس وبغداد وسيرة اشخاص عاشرتهم وعاصرتهم. فاذا هي وثيقة ثقافية واجتماعية وسياسية وحضارية وتاريخية على العصر..)ص5..مع قدرة واعية ممسكة بخيوط اللعبة وتحريك الراوي السارد العليم للمكان والزمان والشخوص بقدرة استثنائية ماسكة بكل تلابيبها وتداعياتها فنيا وسايكولوجيا.. وقد اسهمت دار ميارة للنشر والتوزيع في نشرها وانتشارها/ 2018..كونها نص يتمظهر من خلال ذاكرتين متفاعلتين، أولهما: ما تختزنه ذاكرة المنتجة (الروائية/ حياة الرايس) من احداث سيرية واقعية نامية تسبح بامتداد فضائين مكانيين(بغداد/تونس)..ثانيهما: التخييل السردي الذي يحرك النص ويضفي عليه تشويقا وعمقا جماليا جاذبا..اضافة الى تركيزها على الاحداث ونسقية الافعال..
(وقفت السيارة امام بوابة حديدية عملاقة امامها حارس كهل يحمل كلاشنكوف يعلو كتفه ويتدلى ثقيلا حتى خاصرته وهو يقطع البوابة الرئيسة العريضة جيئة وذهابا. ارتعبت اول ما رايته ولم اكن اعرف ان حراس المبيتات يحملون سلاحا صارخا وظاهرا بهذا الشكل من قبل..فمبيتات الطلبة عندنا مفتوحة ودخولها حر ودون استئذان من طرف الطلاب ذكورا او اناثا. وبدا لي وكأننا ندخل ثكنة. استأذن المرافق الحارس واعطاه ورقة فيها اذن السكن ليفتح لنا الباب..دخلنا بهو الاستقبال الفخم..الفسيح..المفروش بسجاد احمر سميك.. تصطف على جانبيه ارائك جلدية بيضاء يسمى (الاستعلامات) عندهم..الاستعلامات التي ستكون لنا معها حكايات وحكايات.. أودعني المرافق الى المشرفة الليلية التي تجلس الى مكتب خشبي قبالة الباب تسهر على تسجيل دخول الطالبات وخروجهن وتراقب اوقاتهن وقد انتهت مهمته الى هذا الحد في يومها الاول بعدما تمنى لي النجاح والتوفيق في دراستي والاقامة الطيبة في السكن استقبلتني(الست وداد أم سعد) المشرفة الليلية بحفاوة ودهشة وسألت المرافق(وهو يقدم اليها ورقة اذن السكن) قبل ان يغادر ان كنت احسن الكلام بالعربية؟.. ولما نظرت اليها باستغراب ودهشة قالت لي: يقولون انكم بتونس ما تحكون بالعربية؟).. تعمدت ان اجيبها بالعربية الفصحى وقد اغاضتني هذه الافكار المسبقة عن بلدي تونس..ولكنها كانت وديعة.. ودودة ..امرأة محجبة في مقتبل العمر.. رمقتني بنظرة حنون وقادتني الى الغرفة الحادية والخمسين من الطابق الثالث..) ص31 ـ ص32
فالساردة تركز على البوح الوجداني الذي يصب في الدائرة العاطفية مع هيمنة الواقعي والتخييلي رؤيويا بجمالية لغوية ايحائية، فضلا عن سيطرة الجو النفسي على فضاءات النص الذي اتسم بالقلق والتساؤل. مع افضاء الطابع الدرامي الذي غلب عليه التوتر والتناقضات الضدية المتصارعة التي منحته حركية دينامية اسهمت في خلق عنصر التشويق بلغة لا تكتفي بكونها اداة توصيل وانما تنزع الى المعنى الدلالي الذي يكمن في السياق.. من خلال تكثيف التعبير والتعامل مع الاشارة الجمالية لاكتشاف مكنونات الوجود بتغيراته الزمكانية المندرجة في خانة الحدث باقتناص اللحظة ونقلها الى المخيلة لنسج عوالمها بلغة تختصر المسافات وتمازج بين الواقعي والتخييلي لتحقيق عوالم تتجاوز المألوف ومقصديتها الذاتية لتسهم في تعدد الرؤى النصية المتفاعلة برموزها المستفزة للذاكرة..
(أرخي رأسي على الوسادة وأتمدد بجسدي المرهق على السرير. فأكاد أتحسس يد عمتي الحنون وهي جاثية بركبتيها عند فراشي ترقيني رقيتها المعتادة التي ورثتها اياها امها: جدتي (شلبية بنت البير) بعدما (دفلت) لها في يدها، مثلما كانت تقول دائما: أكاد اسمع رقياها واكاد ارددها معها من كثرة ما حفظتها. وقد نفخت ثلاث مرات نفخا خفيفا في كفها. ثم اغلقته وشرعت تكركب وتمسح جسدها طولا وعرضا لتطرد منه الشر والعين والنفس الشريرة والغيرة والحسد خاصة الذي ترد اليه عمتي كل ما يمكن ان يصيبني. تبسمل وتصلي على النبي: باسم الله الذي لا يضر ولا يؤذي «اللهم صل على النبي حاضر محمد وعلي وفاطمة بنت النبي» كأنك من البنات اطلع ما تبات كأنك من الذكور اطلع ما تبور كأنك من الرجال اطلع بلا هبال كأنك من النساء اطلع واتنسى العين الزرقاء العين الزرقاء اللي شقت البحر فرد شقه..اللهم صل على الرسول يعطيني ربي ما تقول. رقيتك مثلما رقات فاطمة بنت النبي..رقات جمل بوها بات ينين صبح يسير ببركة رب العالمين..اللهم صل على النبي وفاطمة بنت النبي يا نفس يانجسة اخرجي من هالفريسة..)..وكنت اضحك عندما تنطق كلمة (فريسة) منذ صغري واشعر حين تمسدني وكأنها تدغدغني وأقوم خفيفة نشطة..)ص40ـ ص41..
فالساردة تتخطى المشاعر الى وصف الانفعالات والكشف عن الباطني منها بتوظيفها الميثولوجيا لتغطية الجوانب المحيطة بالحدث.. بتوظف التاريخ والتخييل الاسطوري او ما يسمى metafiction بشكل متداخل للوصول الى غايتها الابداعية التي تختلط فيها الازمنة والامكنة وتتعدد المشاهد وتتشابك الحوارات التي تتحول الى مناجاة ذاتيةmonolge حتى انها تجرنا صوب عالم ميلان كونديرا وهو يتحدث عن الجمال في روايته (كائن لا تحتمل خفته)..( يبدو ان في الدماغ منطقة خاصة تماما يمكن تسميتها بـ(الذاكرة الشاعرية)..والتي تسجل كل الاشياء التي سحرتنا او التي جعلتنا ننفعل امامها وكل ما يعطي لحياتنا جمالها..)هذا يعني ان النص يحتفي بذاكرتين متداخلتين، اولهما: الذاكرة الذاتية للمنتج(الراوي)..وثانيهما ذاكرة المكان. فالسرد الذاتي يتعالق والسرد التاريخي الذي يروي سيرة المكان وبعض الاحداث وهذا ما جعل من النص وثيقة تاريخية وثقافية واجتماعية وسياسية… فضلا عن توظيفها تقنية الاستذكار والتذكر..مع توظيف اللهجة المحلية للكشف عن الانتماء البيئي للشخصية. (أييه حضر عظامك لجهنم..أتو ينفعك (سي الحبيب) اللي عرى نساء تونس..نحالهم السفساري وقواهم ع الرجال وسيأتيه يوم الدين..) ص18 ـ ص19..
(بعد مدة من بداية علاقتي بهشام اكتشفت علاقته بفتاة أخرى، صدمت واصابني كثير من القرف من هذه العلاقات الهابطة. ودون ان أنبس ببنت شفة او ان افتح معه الموضوع او ان اكشفه امام نفسه اتجهت مباشرة الى الخطوط الجوية التونسية. قطعت تذكرة ذهاب الى باريس دون رجعة…كنت قد مللت البلد منذ عدت من العراق طوال هذه السنوات الخمس.. ذلك انني لم استطع ان أتأقلم من جديد مع بلدي الذي كان قد تغير في غيابي كثيرا او انا التي تغيرت، لا ادري. المهم كنت اشعر ان الذي هاجر وخرج لسنوات عدة من بلده لن يعود اليها ابدا بروحه كما كان وان عاد بجسده..ولم تعد تقنعني حدود تونس. كنت اشعر انني اعيش بقلب طائر مهاجر لا يخفق الا للرحيل وكانت باريس شهوة قديمة في نفسي.. وامنية عمري ان اعيش بها طال الزمان ام قصر..لعنت الدنيا كلها بقرفها وغدرها وخياناتها ورميت بها ورائي وقررت السفر الى باريس حلم عمري..) ص120,,
فالنص يكرس دلالات انسانية عميقة في حالة صيرورة دائمة ونمو من الداخل يكشف عن حركة زمنية ومتغيرات طبيعية من خلال التحكم بجزئيات المحكي ووضعه تحت سلطة المتخيل..فضلا عن انفتاحه على تقنيات السرد البصري الذي يستدعي المكان ـ الوعاء الفكري للذاكرة ـ ..اضافة الى توظيف الساردة تقانتي الاسترجاع والاستباق وهي تفصح عن السير ذاتي والمرجعي المؤرخ لحقبة زمنية بصورة حيادية وموضوعية منطلقة من احداث وذوات تتحرك في فضاء تاريخي يمتد في الماضي ويعانق الحاضر بلحظته..فالساردة تكتب سيرتها ابتداء من دخولها العراق كطالبة وسابحة بما يخوضه من حروب وصراعات وهي تتنقل في امكنة مختلفة منها المفتوح ومنها المغلق..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة