الصباح الجديد – وكالات:
المدرسة الوحشية اتجاه فني قام على التقاليد التي سبقته، وأهتم الوحشيون بالضوء المتجانس والبناء المسطح فكانت سطوح ألوانهم تتألف من دون استخدام الظل والنور، أي من دون استخدام القيم اللونية فقد اعتمدوا على الشدة اللونية بطبقة واحدة من اللون، ثم اعتمدت هذه المدرسة أسلوب التبسيط في التشكيل فكانت أشبه بالرسم البدائي إلى حد ما، وعدّت المدرسة الوحشية أن ما يزيد من تفاصيل عند رسم الأشكال إنما هو ضار للعمل الفني ، فقد صورت في أعمالهم صور الطبيعة إلى أشكال بسيطة فكانت لصورهم صلة وثيقة من حيث التجريد أو التبسيط في الفن الإسلامي، خاصة أن رائد هذه المدرسة كان الفنان هنري ماتيس الذي استخدم عناصر زخرفية إسلامية في لوحاته مثل الأرابيسك أي الزخرفة النباتية الإسلامية.
أما سبب تسمية هذه المدرسة بالوحشية فيعود إلى عام 1906م عندما قامت مجموعة من الشبان الذين يؤمنون باتجاه التبسيط في الفن، والاعتماد على البديهة في رسم الأشكال قامت هذه المجموعة بعرض أعمالها الفنية في صالون الفنانين المستقلين، فلما شاهدها الناقد لويس فوكسيل وشاهد تمثالاً للنحات دوناتللو بين أعمال هذه الجماعة التي امتازت بألوانها الصارخة، قال فوكسيل لدوناتلو انه وحش من الوحوش فسميت بعد ذلك بالوحشية، ويعد الفنان هنري ماتيس رائداً وعلماً من أعلام هذه المدرسة ثم الفنان جورج رووه.
والوحشية مدرسة في فن التصوير ظهرت في أوائل القرن العشرين في مدينة باريس وتمثل المرحلة الفرنسية للمدرسة التعبيرية التي ظهرت نتيجة الثورات الفنية المتلاحقة التي بشر بها منذ فترات سابقة كل من الفنانين جويا ودولاكروا وتورنر، وتفجرت رسمياً في المدرسة الانطباعية بريادة الفنان مونيه ورفاقه، ووصلت قمتها بأعمال الفنانين الكبار الثلاثة فان غوغ ، وجوجان ، وسيزان ، وقد توازت هذه التطورات مع الثورة الفكرية ضد البرجوازية وانتشار المبادئ الاشتراكية والتحررية وكانت المدرسة الوحشية قمة هذه التطورات.
التحق بعض الفنانين الشباب أمثال: هنري ماتيس وماركيه ومانجان و جورج رووه منذ عام 1892 بمرسم الفنان الرمزي غوستاف مورو في باريس لتعلم الرسم ومع أن هؤلاء الطلاب لم يتبعوا أسلوب أستاذهم إلا أنهم تأثروا بشخصيته – وهو الأستاذ بالأكاديمية الفرنسية ـ وكذلك بأفكاره التحررية الجريئة التي كانت تعمل على تحرير الفن وفصله عن الواقع وانضم إلى المجموعة أيضاً كل من الفنانين: دوفي وفريز وبراك الذين درسوا الفن في مدينة هافر، كما التقاهم فيما بعد وعلى فترات مختلفة كل من الفنانين: ديران وڤلامنك وڤلتات و جان بوي و ڤان دونجن وكاموان ومع أن هؤلاء الفنانين اتبعوا في البدء مدارس وأساليب فنية مختلفة، وكانوا مختلفي الطبائع، إلا أنهم اجتمعوا معاً في الثورة على تقاليد المدارس الفنية وقيودها، وانطلقوا للتعبير مباشرة عن انفعالاتهم بحرية مطلقة باستخدام الألوان الصافية والمتضادة، وبذلك انفتحت أمامهم عوالم واسعة للبحث والتجريب، ومن دون أن يشعروا بالحرج من التأثر بالفنون الأجنبية ولاسيما البدائية الإفريقية، وبالتعبير الحسي الصافي في رسوم الأطفال.
الاب الروحي ماتيس..
عودة المجد إلى الانطباعية الأولى
كان الفنان ماتيس الأب الروحي لفناني المدرسة الوحشية لكونه أكبرهم سناً، وأكثرهم ثقافة، فقد وقف ضد الأساليب المنهجية المتزمتة التي وصلت إليها المدرسة الانطباعية المحدثة التي كان من روادها الفنانان سورا وسينياك اللذان حوّلا المدرسة الانطباعية – رائدة ثورة الفن الحديث – إلى فعل ميكانيكي أدى إلى تمزيق الشكل وتلاشيه في موجات بقع ألوان دقيقة فقدت مع الزمن بريقها باستخدامها الألوان الرمادية. أراد ماتيس ورفاقه أن يعيدوا إلى الانطباعية الأولى مجدها، والاستمرار في تطويرها. وكانت أعمال مونيه ـ ومن أهمها لوحته «14 تموز» التي رسمها عام 1872، وفيها صوَّر الرايات والتزيينات بألوان مشعة صافية – مثالاً لتطلعاتهم، ما حفزهم على استخدام الألوان الصارخة والصريحة كما هي من دون مزج، وبلمسات عريضة وكثافة واضحة، فتوصلوا بذلك إلى أقصى حد من التبسيط. وباستخدامهم المساحات الكبيرة المسطحة غاب الخط والمنظور من أعمالهم، وغاب معهما الموضوع الدرامي والأدبي، بل عملوا على انتقاء الموضوعات البسيطة التي يستطيعون من خلالها تحقيق أفكارهم التشكيلية، كالاحتفالات بزيناتها وأعلامها الملونة، والجدران الزاخرة بالإعلانات وغيرها. وهكذا كان الفنانون الوحشيون عموماً يستسلمون لسليقتهم بالتعبير الحر والعفوي، ويبتعدون قدر الإمكان عن التحليل العلمي للّون والشكل، وكان الهدف من كل ذلك خلق المتعة المجردة لدى الفنان والمشاهد.
تجمع هؤلاء الفنانون منذ عام 1900 حول ماتيس واشتركوا بصالون الخريف منذ عام 1903، هذا الصالون الذي أُحدث ليكون رداً على الصالون الرسمي للفنانين المحافظين وكان الجو الفني في باريس مفعماً بالحيوية والنشاط إذ افتتحت في هذه الفترة معارض الفنانين: فان غوغ (1901) وغوغان (1903) وسيزان (1904). وفي عام 1905 خُصص لماتيس وجماعته صالة في معرض الخريف عرضت فيها لوحات كل من: ماتيس وديران وفريز ومنغوان وبوي وفالتات وماركيه ورووه وفلامنك، وفي هذه الصالة أُلصق بأسلوب هؤلاء الفنانين اسم الوحشية. ذلك أن الناقد الفني لويس فوكسل L.Vauxcelles حين رأى لوحات الفنانين في الصالة تحيط بتمثال لطفل من البرونز للنحات ألبير مارك, أطلق مقولته المشهورة «هذا دوناتلّو في قفص الوحوش».
جمال الالوان والاشكال
من الفن الافريقي
ارتضى الفنانون بالوحشية اسماً لأسلوبهم الفني ليميزهم من فناني المدارس المعاصرة، لكن كثيراً من النقاد يعدونهم أحد وجوه المدرسة التعبيرية Expressionnisme الفرنسية التي تزامن ظهورها مع ظهور المدرسة التعبيرية الألمانية في مدينتي درسدن وميونيخ عام 1905، فالمدرستان كلتاهما تأثرتا بالثورات الفكرية الاشتراكية والتقدمية وكذلك بفن فان غوغ وغوغان، إلا أن لكل منهما خواصَّ تميز إحداهما من الأخرى، ففي حين كان الوحشيون الفرنسيون يهتمون بالموضوعات الطريفة وبالصفاء والسكون والبعد عن الموضوعات المقلقة، كان التعبيريون الألمان يعمقون البعد النفسي والأخلاقي في أعمالهم ويختارون الموضوعات الانتقادية المأسوية وإن كاناـ على سبيل المثال ـ قد تأثرا معاً بالفن الإفريقي إذ أخذ الوحشيون منه جمال ألوانه وأشكاله واستلهم التعبيريون الألمان بعده الديني والسحري.
ولكن المدرسة الوحشية لم تستمر سوى سنوات عدة إذ نشأ أعلامها وتربوا على أن حريتهم المطلقة تمنعهم من التقيد بأسلوب واحد، وكانت الساحة الثقافية زاخرة بالتأثيرات الفنية المختلفة التي تدفع الفنانين إلى التغيير فهذا أسلوب الفنان سيزان يفرض وجوده بالتبشير بالفن التكعيبي ذي البنية المتينة والرصينة والذي أعاد إلى الحجم والبعد الثالث دورهما وهذا الفنان بيكاسو يزاوج بين الفن التكعيبي والفن الإفريقي في لوحته «نساء أفينيون» وكان لهذه التأثيرات أن افترق الفنانون الوحشيون ليتبع كل منهم أسلوبه ، وبذلك انفرط عقد المدرسة الوحشية التي عدت ذروة الفن التشكيلي من حرية وصفاء.