عندما وقفت هند صبري لتسلم جائزة أحسن ممثلة في مهرجان الجونة السينمائي الثالث عن دورها في «نورا تحلم»، شكرت المخرجة التونسية هند بوجمعة لأنها «لم تخف على نورا من هند صبري»، مشيرة للرهبة النابعة من التصورات المسبقة، والتي تجعل غالبية مخرجي الأفلام المغايرة يحجمون عن عرض مشروعاتهم على النجوم خوفًا من رفضهم أو تأثيرهم السلبي على المشروع ونظام العمل.
حديث هند صبري مثير للشجون، فبعد أجيال كان نجوم بقيمة نور الشريف وأحمد زكي ومحمود عبد العزيز هم أبطال رافدي السينما السائدة والمغايرة، صار الانعزال الكامل بين النوعين أحد الأسباب الرئيسة في الشعبية شبه المنعدمة لأي فيلم جاد له توجه فني لا يستهدف شباك التذاكر. ليأتي نجاح هند صبري في «نورا تحلم» الذي ذهب لتورنتو وسان سباستيان قبله تتويجه في الجونة، فيعيد الأمل في مصالحة بين صناع السينما الجادة ونجوم السينما السائدة.
لكن من هي نورا؟ وكيف فهمتها وتعاملت معها هند صبري حتى صار فوزها بجائزة التمثيل أمرًا متوقعًا قبل إعلان الجوائز؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في هذا المقال.
بلاغة التقديم أو الشعبية العاشقة
مع عناوين البداية نلمح ابتسامتها الواسعة.. عيناها الضاحكة تشي بسعادة واضحة.. ثم يتسع الكادر لنرى المزيد من التفاصيل: شعرها المصبوغ بصبغة رخيصة، العلكة التي تمضغها بطريقة سوقية، وملابسها التي تشير لعملها في مغسلة ما، والتي تفتحها لتُظهر مفرق صدرها في تناقض واضح مع زميلتها المجاورة، المحجبة التي تغلق ملابس العمل حتى الزر الأعلى.. المجموعة الثالثة من المعلومات تأتي من حديثها عن الحب بجوار زميلتها، وكوب القهوة الذي تسكبه برعونة على الغسيل النظيف ولا تهتم.
مجرد ثوان كانت كافية لنعرف الكثير عن نورا، عن مستواها الاجتماعي وعملها وطبيعتها الشخصية، وشعورها الحالي بالسعادة الذي لا تخجل منه أو تخفيه. هذه امرأة شعبية، قوية، تعيش حالة حب لا تهتم لما عداها، حالتها المادية غير مستقرة لكنها كما قلنا لا تهتم. صورة مثالية لبلاغة الاستهلال الذي تُقدم به المخرجة بطلتها العاشقة.
التتابع التالي يعرفنا أكثر عن علاقة الحب التي تعيشها نورا: تسير وراء حبيبها لا جواره، تُقبّله خلسة في مدخل بناية، ويصعدان لنعرف إنه عشيقها الذي يخوض معها اجراءات الطلاق من زوجها السجين، العشيق الذي تدافع عن وضعها معه بقوة وترفض وصاية الموظفة الحكومية التي تحاول أن تلفت نظرها لأن ما تفعله قد يكون خاطئًا.
دعك هنا من السمات الشكلية للشخصية، والتي أوضحنا كيف عبّرت دون صراخ عن الكثير من المعلومات الضرورية التي تقربنا منها، ولنتحدث عما قامت به هند صبري فيما لا يتجاوز الست دقائق من تجسيد يحقق هدفين أساسيين: الأول هو القدرة على ربط نورا بالواقع، تقديمها في «بروفايل» يمكن لكل مشاهد أن يجد فيه تماسًا مع امرأة قابلها في حياته، خادمة أو عاملة في صالون أو بائعة في محل. نمط ما ربما تندر مشاهدته على الشاشات لكنه متوافر بكثرة في الحياة الواقعية، بما يفتح باب التصديق والتماهي مبكرًا على مصراعيه.
الهدف الثاني هو التعبير اللحظي عن القوة، نورا هذه تعيش وضع القطة الشرسة المستعدة للهجوم من أجل الحفاظ على وليفها الذي تخالف الأخلاق السائدة وتُقدم على تحرك قانوني مُدان لدى الأغلبية كي تكون معه. لكن سرعان ما تأتي اللقطة التالية (والتي نرى فيها أبناءها للمرة الأولى) لتخبرنا ـ بشكل خافت مطروح للنقاش ـ أن تلك القوة لحظية، مشروطة بالوضع الراهن، بل تكاد تكون والضعف وجهين لعملة واحدة.
نورا في مهب الريح
وصفنا تعبير هند صبري/ نورا عن القوة باللحظي لأنه لا يدم طويلًا، فإذا كانت دراما الشخصية عموما هي قوس arch، تقطعه من نقطة إلى نقطة أخرى، فإن قوس نورا هو اكتشافها ـ واكتشافنا معها ـ إنها أكثر هشاشة مما كانت تتخيل، أن تصوراتها عن مستقبلها السعيد مجرد وهم، لاعتبارات اجتماعية وأسرية وشخصية، تجعل كل الأحلام قابلة للتقويض بمجرد صدفة قدرية، حتى إن لم تحدث خلال الأيام الأربعة السابقة لقرار المحكمة، فغيرها وغيرها سيحدث عاجلًا أم آجلًا.
لماذا؟ لأن النزق لا يكفي. صحيح إنها امرأة تبدو أقوى ممن حولها، لكنها قوة مستمدة من وضع لا يمكن استمراره. ثمة حائل مؤقت يجعل العالم يغض البصر عن ممارسة يستعد الجميع لإشهار نصالهم في وجه صاحبتها. نورا وإن كانت قادرة على الصياح في وجه موظفة حكومية حاولت لفت نظرها بهدوء، فالتجربة تثبت أنها عاجزة عن فعل الشيء نفسه في مواجهة ما هو أقوى: الزواج/ الأسرة/ المؤسسة. ليكتمل قوس الشخصية برحلتها من دفاعها عن حقها في الحب، إلى ضعفها البطرسي في إنكار الحبيب ثلاثًا.
قيمة أداء هند صبري تكمن في إمساكها من بداية الفيلم لنهايته بهذا التناقض الكامن تحت جلد نورا، ففي أقصى لحظات قوتها وجرأتها يشيّ شيء في وجهها بالضعف والشك، وفي أقسى لحظات انكسارها تكذب بقوة من تدافع عن وجودها وكيانها، وبين ضعف القوة وقوة الضعف تمثل حكاية نورا الخيالية، تعبيرًا عن مأزق واقعي للمرأة الراغبة في الحرية في عالم معاد بطبيعته لها، أو بكلمات أخرى: عن مأزق تلك المرأة في العالم العربي!
قمة التعبير عن تناقض القوة والضعف لدى نورا تأتي في لحظة انفجارها في وجه زوجها (لطفي العبدلي)، انفجار يُعبّر ـ وتُعبّر به هند ـ عن الأمرين معًا، تصرخ وتفرغ شحنة راكمتها عبر السنوات تجاه زوج لم تنل منه سوى الألم، لكنها ليس صرخة تحرر قدر كونها «تغريدة البجعة»، التي تنتهي بها علاقتها بالحب والحلم والحرية، لتبقى فقط الرغبة في البقاء بأمان. من جديد، قوة وضعف معًا، وكأنه قدرها وقدر كل نورا أخرى.
«نورا تحلم» فيلم جيد لا أكثر، لديه فصل أول ممتاز يليه فصلان متوسطان على صعيدي الإيقاع والقرارات الإخراجية، ونهاية غرائبية يظل سر استعانة المخرجة بها لغزًا تصعب إجابته، لكنه يمتلك عنصرًا مدهشًا هو فهم بطلته (ومخرجته بطبيعة الحال) لمأزق الشخصية الرئيسة ورحلتها الداخلية، والذي تجسد في أداء يصعب ألا تتوقف أمام جودته. أداء تبدو معه الإشارة للتفاوت الواضح بين مستوى أبطال العمل بلا قيمة، فربما لم يكن البطلان بهذه الاعتيادية، وإنما ظهورهما جوار ممثلة خارقة للعادة هو ما منحنا هذا الشعور.