كارل بيلت*
كييف ـ على نحو مفاجئ، وجدت استطلاعات الرأي أن الأوكرانيين أصبحوا أكثر تفاؤلا بشأن مستقبلهم، مقارنة بمواطني أغلب البلدان الأخرى حول العالم. وهو أمر مدهش لكثيرين، نظرا للتحديات العديدة التي تواجه أوكرانيا، لكن المسار السياسي الحالي الذي تسلكه أوكرانيا يبرر هذا التفاؤل.
خلال أول عقدين بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، كانت أوكرانيا واحدة من أسوأ الدول التي خلفته حُكما. في حين خضعت روسيا في البداية لإصلاحات اقتصادية ليبرالية واستفادت لفترة طويلة من ارتفاع أسعار النفط والغاز، والتحقت دول البلطيق بعضوية الاتحاد الأوروبي في عام 2004، بقيت أوكرانيا متخلفة عن الركب. الآن يكاد نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي في بولندا المجاورة يعادل خمسة أضعاف نظيره في أوكرانيا، حتى برغم أن البلدين بدءا حياة ما بعد الشيوعية من نفس المستوى الاقتصادي تقريبا.
رغم أن الثورة البرتقالية الأوكرانية في عام 2004 كشفت عن رغبة شعبية عارمة في التغيير، فإنها سرعان ما انتهت إلى نزاعات داخلية وخيبة أمل. وبحلول الوقت حين بدأت تتجسد سياسيا رغبة أوكرانيا في إقامة علاقات أوثق مع الاتحاد الأوروبي، عادت روسيا التي أغراها طموحها الحديث إلى الظهور لكي تتصدى لتحول أوكرانيا إلى الغرب. وما زاد الطين بله أن وضع أوكرانيا المالي كان كارثيا. فقد أدى الفساد المستشري وغياب الإصلاح الحقيقي إلى عدم تأهلها للحصول على المساعدة من صندوق النقد الدولي أو الحكومات الغربية، الأمر الذي جعل الرئيس فيكتور يانوكوفيتش يعتمد بشدة على الكرملين (وربما بدرجة أكبر مما كان يتمنى).
في أواخر عام 2013، نزل يانوكوفيتش عند المطالب الروسية بإلغاء اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا (على وعد من روسيا بإقامة منطقة تجارة حرة عميقة وشاملة مع أوكرانيا). وانفجر الأوكرانيون غضبا، وجاء رد نظام يانوكوفيتش عنيفا، مما أسفر عن مقتل نحو 100 شخص في شوارع كييف. ولكن بعد فشله في إيقاف الاحتجاجات، فر يانوكوفيتش في النهاية إلى روسيا، التي تدخلت عسكريا.
بحلول ربيع عام 2014، كانت أوكرانيا عالقة بين عالمين. فقد احتلت روسيا شبه جزيرة القرم وضمتها إليها، ودعمت واعترفت بإقليمين انفصاليين في منطقة دونباس الشرقية، وكانت تدير عملية شبه سرية لاقتطاع المناطق الجنوبية من أوكرانيا لدمجها في «روسيا الجديدة» (Novorossyia). كان وجودها ذاته على المحك، وكانت أوكرانيا أيضا مُفلِسة حرفيا.
لكن أوكرانيا تعافت بشكل ملحوظ. ففي مايو/أيار من عام 2014، فاز بترو بوروشينكو بالرئاسة بعد نصر انتخابي ساحق لم يسبق له مثيل في تاريخ البلاد الديمقراطي القصير. وبدأت أوكرانيا تقاوم، فاضطر الرئيس الروسي فلاديمير بوتن إلى نشر قوات الجيش الروسي النظامية في إقليمي دونتيسك ولوهانسك في شرق أوكرانيا. ثم عمل وقف إطلاق النار والعملية السياسية بموجب بروتوكول مينسك، الذي أبرم في شهر سبتمبر/أيلول من ذات العام، على إنقاذ ماء وجه بوتن ومشروعه غير الشرعي لأوكرانيا، وإن كان النزاع ظل قائما دون حل. تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن القتال أودى بحياة 13 ألف شخص وأجبر الملايين من الناس على الفرار. بدأ أحدث فصل في ملحمة أوكرانيا في وقت مبكر من هذا العام، عندما انتزع فولوديمير زيلينسكي، الممثل الهزلي الشهير الذي لا يتمتع بأي خبرة سياسية، فوزا مفاجئا في الانتخابات الرئاسية. وفي الانتخابات البرلمانية بعد بضعة أشهر، فاز حزبه السياسي الجديد بأغلبية مطلقة. عندما يتعلق الأمر بملاحقة الإصلاحات الصعبة، سنجد أن زيلينسكي وفريقه في وضع أفضل من أي حكومة أخرى في تاريخ أوكرانيا بعد الاتحاد السوفييتي.
الواقع أن انتخاب زيلينسكي يعكس توقا شديدا عميق الجذور إلى التغيير الحقيقي. إذ كانت حملته تركز على الفساد، والضائقة الاقتصادية، والصراع المستمر في الشرق، وهذه القضايا هي التي ستلوح ضخمة خلال رئاسته. ورغم أن أوكرانيا تبنت إصلاحات أبعد مدى من أي دولة أوروبية أخرى في السنوات الأخيرة، فإن الناخبين يريدون المزيد، وهم على يقين من قدرة زيلينسكي وفريقه الشاب على تحقيق مطالبهم.
رسم زيلينسكي الخطوط العريضة لبرنامج (لا يزال غامضا) من السياسات الجذرية التي تهدف إلى توسيع حجم الاقتصاد الأوكراني بنحو 40% في غضون السنوات المقبلة. وكما أوضح هو ومستشاروه، فإن هذا يستلزم زيادة كبيرة في الاستثمار الأجنبي، وهي الزيادة التي لن تتحقق قبل أن تثبت السلطة القضائية نزاهتها وفعاليتها. وتُعَد الحملة النشطة القوية ضد الفساد شرطا أساسيا مسبقا للنمو الاقتصادي.
يقضي أحد المقترحات الاقتصادية الواعدة بشكل خاص بتوسيع الملكية الخاصة للأراضي، من أجل تشجيع المنافسة والإبداع في القطاع الزراعي. وبوصفها موطنا لثلث «التربة السواء» الفائقة الخصوبة على كوكب الأرض، فقد تفوقت أوكرانيا على روسيا بالفعل باعتبارها أكبر بلد مصدر للحبوب في العالم، وهي ثالث أكبر مورد للغذاء للاتحاد الأوروبي بعد الولايات المتحدة والبرازيل. وهي قادرة على تحقيق قدر أكبر كثيرا من الإنجاز في ظل إصلاحات معززة للنمو.
من الواضح أن زيلينسكي وفريقه يستفيدون من الرياح الخلفية الداعمة في الوقت الحالي. لكن مستقبل أوكرانيا سوف يعتمد على مدى براعتهم في الاستفادة من شهر العسل السياسي لتنفيذ إصلاحات صعبة. وسوف تصادفهم رياح معاكسة حتما على الطريق. لكن العلامات المبكرة مشجعة ومبشرة. وليس من الخطأ أن يشعر الأوكرانيون بالتفاؤل.
*ترجمة: إبراهيم محمد علي Translated by: Ibrahim M. Ali
كارل بيلت رئيس وزراء السويد ووزير خارجيتها سابقا.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2019.
www.project-syndicate.org