تساؤلات ضاغطة وإجابات شافية!
د. صابر العيساوي
الحلقة الثالثة
يُعدُّ مشروع ماء الرصافة، الذي وُضِعتْ خطط انجازه في ثمانينات القرن الماضي ،أحد أهم مشاريع البنى التحتية في مدينة بغداد، إذا ما لم يكن أهمها على الاطلاق، وذلك لما له من صلة بصحة المواطن البغدادي وبيئته.
وأستطيع أن أقول، بثقة، انه من أكبر مشاريع الماء في العراق والمنطقة لقدرته على توفير الماء الصالح للشرب، وبمستوى عال من الجودة، لأكثر من خمسة ملايين مواطن اذا قدر له ان ينجز بمرحلتيه الأولى والثانية، وبطاقة كلية تصل لمليوني متر مكعب يومياً.
وقد وضعت امانة بغداد خطة طموحة لتنفيذ المرحلة الأولى من المشروع بطاقة ( 910 ) آلاف متر مكعب في اليوم، بدءاً باعداد وثائق المشروع، وصولاً لإحالته إلى ائتلاف من ثلاث شركات برئاسة شركة ديكريمونت Degremont الفرنسية وشركتي المبروك والعصام العراقيتين بمبلغ 930 مليون دولار (ما يعادل الف ومئة وواحد ثلاثون مليار دينار في حينه) وبمدة انجاز تقترب من ثلاث سنوات، وبآلية تسليم المفتاح (تصميم وتجهيز وتنفيذ).
استعانت الامانة بفريقين لتقييم عروض الشركات: فريق من امانة بغداد وفريق آخر يمثل الاستشاري الأجنبي .
وقد عكف الفريقان المتخصصان على دراسة العروض، وعمل كل فريق بمعزل عن الآخر، وكانت توصية الفريقين بشأن الاحالة متطابقة.
وحين أوصى الفريقان بالإحالة لم أُوقِّع العقد، بل أرسلت التوصيات والأوليات كافة إلى أربع جهات، وهي لجنة النزاهة البرلمانية، وهيأة النزاهة، وديوان الرقابة المالية، ودائرة العقود في وزارة التخطيط، واستمهلت هذه الجهات اسبوعين لإبداء ملاحظاتها على الإحالة قبل توقيع العقد، وقد قمنا بهذا الإجراء لإدراكنا بأن هناك من يتربص بأمانة بغداد وأدائها، ويخطط للصيد بالماء العكر، ويسعى جاهداً لتسقيط عملها وتشويه سمعتها.
لم تردنا أية ملاحظة تحول دون توقيع العقد، بل أن دائرة العقود في وزارة التخطيط أرسلت إلينا كتاب تؤكد فيه إن اجراءاتنا كانت سليمة، وإن عملية الإحالة كانت مثالية من حيث رصانة التدقيق ودقة المعايير.. وهذا كله موثق رسمياً.
ولكي تتمكن أمانة بغداد من ادراج هذا المشروع الكبير في خطتها السنوية، كان لا بد من الحصول على موافقات خاصة من اللجنة الاقتصادية لمجلس الوزراء برئاسة الدكتور برهم صالح في عهد حكومة نوري المالكي الأولى.
ولتحقيق ذلك استعنت بالدكتور عادل عبد المهدي، نائب رئيس الجمهورية آنذاك، لعرض المشروع وتبيان أهميته، واستحصال الموافقات اللازمة، وقد تحقق ذلك من خلال سلسلة اتصالات ومتابعات منه شخصياً مع أصحاب القرار، وهكذا حصلت موافقة اللجنة الاقتصادية الوزارية على خطة أمانة بغداد لتنفيذ المشروع مع تمويله لكون ميزانية أمانة بغداد لا تغطي كلفة مشروع بهذا الحجم.
للتاريخ اقول، كان للسيد نوري المالكي دور جدي وفاعل في دعم مشاريع امانة بغداد ومنها هذا المشروع، مع الاشارة الواجبة بان السيد المالكي لم يتدخل بالإحالة ولم يسأل عن حيثياتها وخلفياتها، بل لم يتدخل بإحالة أي عقد في أمانة بغداد طيلة وجودي على رأس الأمانة.
خلال فترة تحليل ودراسة العروض للشركات حصل حريق في غرفة فريق أمانة بغداد أدى إلى تضرر نسخة من العروض الموجودة داخل الغرفة، لكن الحريق لم يؤثر على إجراءات دراسة العروض لوجود نسخ احتياط، ورقية وإلكترونية، في أماكن أخرى داخل مبنى الامانة.
المشروع اكتمل وافتتح قبل اكثر من ثلاث سنوات ودخل الخدمة وعالج الشحة وخاصة في جانب الرصافة والحمد لله.
الوثيقة المرفقة مع المقال وثيقة سرية لم يطلع عليها سوى ثلاثة أشخاص، وهي موقعة من قبل مدير عام ماء بغداد يبلغ فيها قيادة الأمانة بأن الشركات المنفذة لمشروع ماء الرصافة قد استنفذت الوقت المخصص لأكمال المشروع، وان دائرة الماء بغداد استكملت استقطاع الحد الأعلى من الغرامات التأخيرية البالغة (113) مائة وثلاثة عشر مليار دينار، وبالتالي توجب على الأمانة استقطاع هذا المبلغ، وحددت هذه الوثيقة أبواب الخصم وبالأرقام.
هذه الوثيقة تثبت بالدليل القاطع كفاءة ونزاهة الفريق المسؤول عن إدارة هذا المشروع بدءاً من دائرة المهندس المقيم وصولاً الى مدير عام الدائرة، ولوجود بند في العقد بان الأمانة ملزمة في حالة حصول تأخير في إكمال المشروع وتسليمه بالوقت المحدد بالعقد فانه سيترتب على الشركات المنفذة للمشروع غرامات محددة قيمتها بشكل يومي ما دام المشروع غير مكتمل وصولاً للحد الأعلى من الغرامات والتي تمثل 10 بالمئة من قيمة العقد الكلية.
إن ما حصل بعد هذه الوثيقة هو قيام أمانة بغداد باستحصال قرار من لجنة الاعمار والخدمات الوزارية بمنح المقاول مدة إضافية قدرها 9 اشهر استثناءً من الضوابط والتعليمات النافذة، رغم ان المشروع كان حين ذاك في مرحلة التشغيل التجريبي!؟،
وفي وقت إصدار هذا القرار تم الانتباه إلى أن منح مدة إضافية للشركة لا يعطي الحق لأمانة بغداد في إلغاء أو تخفيض الغرامات التأخيرية المستقطعة، وذلك لأن هدف منح المدد الإضافية استثناءً من الضوابط هو لإعطاء فرصة للشركات لإكمال المشاريع دون الدخول بإجراءات سحب العمل المعقدة ودون التأثير على الغرامات التأخيرية المستقطعة تخفيضاً أو الغاءً.
من هنا ذهبوا إلى خيار ثان، أُضيف الى الخيار الأول (المدد الإضافية)، وهو إعادة احتساب الغرامات وفق تفسير لا ينطبق على هذا العقد كون العقد بمثابة تصميم وتجهيز وتنفيذ أي تسليم مفتاح (مفتاح باليد) يعني عدم القدرة على استلام المشروع على مراحل، بل الشركة ملزمة بأكمال المشروع بنسبة 100 بالمئة ثم تسليمه الى أمانة بغداد.
إن أصدار هذا القرار من قبل لجنة الخدمات الوزارية بمنح مدة 9 أشهر، مع تفسير احتساب الغرامات أدى إلى هدر وتبديد الغرامات التأخيرية وإرجاع أكثر من (109) مائة وتسعة مليارات دينار إلى المقاول، والإبقاء على أقل من اربع مليارات دينار فقط كغرامات تأخيرية!
إن أمانة بغداد هي من طلبت إصدار هذا القرار، وهي من أقنعت اللجنة على إصداره، وهي من وقّعت على مسودته رغم التحفظ التحريري للأمانة العامة لمجلس الوزراء على أصل القرار أثناء اجتماع اللجنة الوزارية.
وعند وصول القرار إلى أمانة بغداد تخوف بعض المسؤولين فيها من تنفيذه، فكتبوا إلى أمين بغداد بأن القرار غير واضح، ولا يمكن تنفيذه، وعليه يجب الاستفسار من لجنة الاعمار والخدمات الوزارية لتوضح، بنحو صريح، إذا ما كان القرار سيلغي أغلب الغرامات التأخيرية المستقطعة أم لا، وحين تم الاستفسار فإنما لرمي الكرة في ملعب اللجنة الوزارية وتحميلها المسؤولية كاملةً.
تهربت اللجنة الوزارية من اعطاء الفتوى القانونية، ونأت بنفسها عن ذلك الخرق، وحملت أمين بغداد المسؤولية كاملة من خلال عبارة صريحة وردت في رد اللجنة يقول (ان القرار اتخذ بناءً على طلب أمانتكم).. علما ان استفسار أمانة بغداد المرسل الى لجنة الاعمار والخدمات الوزارية لم يشر الى ان العقد (تسليم مفتاح ولا يمكن استلامه على مراحل)!؟
من قدم الطلب؟ وكيف قُدم الطلب؟ ومن أقنع اللجنة؟ ومن وقع ومن تحفظ من أعضاء لجنة الاعمار والخدمات الوزارية على هذا القرار؟ هذه الأمور من اختصاص الجهات الرقابية والقضائية.
إن صرف الغرامات التأخيرية سابقة لم تحصل في امانة بغداد، وهي سابقة تعكس سلوكاً وظيفياً مشيناً فيها درجة عالية من التواطؤ والإهمال والفساد ايضاً.
ان قرار ارجاع (109) مليار دينار الى المقاول، والمخصومة كغرامات تأخيرية، كان أكبر شبهة فساد حصلت في تاريخ أمانة بغداد.
ربما اخطأت اليد الحديدية التي كانت تلوح بها حكومة العبادي بضرب الفساد والفاسدين الهدف، واصابت الغرامات التأخيرية لتنقلها من خزينة أمانة بغداد الى حساب الشركات المنفذة لمشروع ماء الرصافة!
يتحدثون عن نوعين من الفساد، أحدهما مبطن والثاني صريح ومعلن، وما من تصنيف لقرار إعادة الغرامات التأخيرية للمقاول سوى انه فساد صريح ووقح يعكس أبشع أنواع التواطؤات على المال العام وعلى مصلحة المواطن وخدمته وصحته ايضاً!
لك الله ياعراق وأنت ترزح تحت كابوس الفساد والنكوص والتخلف.