عامر كامل السامرائي
لم يعد العيد كما كان سابقاً، أو ربما لم أعد أنا كما عهدت نفسي، فسنوات الغربة الطويلة التي التهمت كل مشاعر الفرح مثل «الأرضة» التي تنخر الخشب وتحوله إلى رماد أصفر، جعلت أيام الأعياد تمر خاطفة كالشهب دون أن تترك خلفها أي أثر غير ومضة ذات ملامح مجهولة.
أكتظ مطعم «صمد العراقي» في دبي بالعراقيين، الاطفال يتصارخون، لم يمس العيد منهم سوى ملابسهم الجديدة، والتي بدأت تأخذ «عيديتها» من الكباب والمَرَق.
قبل أن اتناول الطعام الذي ازدحمت به منضدتنا راحت عينايَ تتجولان في أركان القاعة وبدأتُ اتفحص بفضول وجوه الجالسين حولنا، باحثاً باهتمام مبالغ عن فرحة العيد التي لابد لها في مثل هذا اليوم وأن تتربع على وجه أحد ما في هذا المكان الواسع، بينما بدأت زوجتي تنهي وتأمر الأطفال بعدم العبث بالخبز والتراشق بنعم الله.
- حرام ماما، حبيبي الله يزعل، كررتها ألف مرة دون فائدة، كما كانت تفعل أمي معنا.
قبل ان ننتهي من الغداء، ولإشباع فضولي أيضاً استهوتني فكرة البحث عن شخص ما اسأله فيما لو كان يشعر بالفرح حقاً، لعلني أجد مبرراً لشعوري المتحجر هذا، فالوجوه من حولي لم تبح بشيء. فقررت البحث عن شخص أعرفه يكون ضحية سائغة لرغبتي العارمة في معرفة ما يكنه صدر الآخرين في مثل هذا اليوم. اقنعت زوجتي في الذهاب لزيارة صديقتها المطلّقة، ومواساتها في مثل هذا اليوم المبارك. - والله تكسبين بيها أجر. – قلت لها كمن يريد ان يؤكد اقتناعها بالفكرة.
خرجنا إلى الشارع، استقلت هي والأطفال سيارة الأجرة، وبقيت أنا وحدي واقفاً أتلفت، ثم انطلقت هائماً على وجهي أذرع شوارع المدينة الصغيرة يميناً وشمالاً، أحدق بوجوه المارة، عسى أن يقع نظري على أحد أعرفه ولو من بعيد، ولكنني لم أصادف أحد؛ رغم أنني أعيش في هذه المدينة منذ اربعة أعوام. شغلتني فكرة أن اتوقع عدد الأصدقاء الذين سيبادرونني التحية خلال هذه المسافة ويهنؤونني بالعيد بوجوه بشوشة، لو أنني كنت في بلدي الآن.
تخيلت وجوه اهلي واقاربي، ورحت اقلبها واحداً تلو الآخر كمن يتصفح البوماً للصور. استرجعت في ذهني ايام طفولتي والفرح بالعيد مثل شريط سينمائي، واستغربت كثيراً انه لم يعد باستطاعتي تذكر الألوان، وإنما كنت أراها بالأبيض والأسود فقط، أجهدت ذاكرتي دون جدوى في تذكر لون الحذاء الجديد الذي وضعته قرب مخدتي ليلة عرفة ولون البدلة التي فرشتها على سريري بينما نمت انا تلك الليلة على الأرض قرب السرير. كانت فرحتي لا يضاهيها شيء أبداً، ولولا تحذير أُمي لنا من ارتداء ملابس العيد قبل طلوع الفجر-»لكيلا يزعل علينا العيد» لكنت لبستها وانتظرت حتى الصباح.
أكثر ما كان يفرحني في العيد هو الذهاب الى السينما، لا أدرى لماذا لم تكن تجذبني المراجيح ودولاب الهواء وغيرها من العاب الصبيان. كنت أدخل إلى السينما دون تعيين، فقط لمجرد مشاهدة الفلم. لا تهمني اسمائها ولا حتى يافطاتها المرسومة بألوان صاخبة، لوجوه الممثلين والممثلات النصف عاريات احيانا. وإنما كنت اتدافع للوصول إلى شباك التذاكر المزدحم بأشخاص أكبر مني سناً للحصول على تذكرة.
قطع شريط مخيلتي تلك شخص أشقر الشعر بعينين مبتسمتين بسؤاله عن الوقت. فاعتذرت بخجل عن عدم معرفتي، واستغربت جداً كوني لم أحمل ساعة يدوية منذ أن وصلت إلى هذا البلد، وأدهشني أنه ومنذ ذلك الوقت لم يسألني أحد عن الوقت ايضاً.
بدأ التعب يدب في ساقي، وانا اجوب الشوارع، دخلت الكثير من المطاعم، وفتشت بهو فنادق عدة، ولكن لم تطالعني غير وجوه غريبة آلية التقاسيم، لم أستطع أن اتفرس منها اي شيء. - ألهذا الحد تبلدت احاسيسي؟ – سالت نفسي بحسرة وألم.
جلست إلى حائط إحدى المطاعم بانتظار أن يأتي أحد اعرفه، وضعت ارنبة انفي بين ركبتي. فغفيت. استيقظت على رنة هاتفي المحمول. - حبيبي وين صرت؟ الأطفال يريدون ينامون. – هتفت زوجتي.
لا أدري كم مضى من الوقت وانا على هذه الحالة، فالظلام نشر عباءته على المدينة. تلألأت المصابيح واغرقت الشوارع بلون أصفر شاحب. حركت رجلي لأنهض، سمعت جلجلة نقود معدنية تناثرت حولي رماها لي بعض المارة، التقطتها بسرعة ودفعت نفسي متهاويا خلف سائق سيارة الأجرة ينتابني الخجل.