لائحة الحقوق !

إنني لا أشك أن الأصوات التي تتعالى كل يوم مطالبة بحقها في الحصول على الخدمات وتوفير فرص العمل وتحسين ظروف العيش، هي أصوات صادقة وأمينة. وأن سنوات القهر الطويلة التي حرمتها من حرية التعبير هي التي دفعتها للخروج إلى الشارع. ومنحتها الشعور أن الحقوق أمر لا يمكن التهاون به أو التفريط فيه.
إن لائحة حقوق الإنسان التي اعتمدتها الأمم المتحدة بشكل رسمي عام 1948 عالجت كل هذه النواحي، وأقرت بحاجات الفرد الأساسية، مثل الحرية والتعليم والصحة والطاقة والغذاء والماء والعمل والمشاركة في القرار وغير ذلك. وألزمت جميع الدول الأعضاء بالعمل بها. لكن هذه الحقوق تتطور باستمرار، ويختلف مفهومها باختلاف الأزمان. وإذا ما عدنا إلى الوراء قليلاً فإن حرية التعبير لم تكن متاحة للجميع، والتعليم كان وقفاً على الطبقات الميسورة . أما حق التصويت فقد استثنيت منه المرأة، وهكذا. وماتزال بعض الحقوق في طور التكوين مثل الإجهاض. كما أن الحقوق الثقافية للأفراد لم تعرف قبل عقدين أو ثلاثة.
كانت معايير الفقر والرفاهية مختلفة عما هي عليه الآن، ومتطلبات الحياة أدنى بكثير. بل إن حقوق الإنسان لم تقر قبل أن يتغير شكل الحياة في أوربا بعد الحرب العالمية الثانية. ولم يتسن الوصول إلى هذا المستوى إلا بعد أن اعتاد المواطنون هناك على أداء واجباتهم كاملة. فقد كان الملك وقادة الجيش والنبلاء في الماضي هم الذين يحددون للعامة حاجاتهم الضرورية. ولم تتعد هذه الحاجات في العادة الطعام واللباس.
أما في بلادنا فالأمر مختلف إلى حد كبير، ويكاد أن يكون على الضد من ذلك تماماً. فالواجبات بدأت تتضاءل، وتتلاشى. والحقوق أخذت تتضخم وتكبر. ومثل هذا الخلل الذي طرأ على المعادلة، انعكس على الحياة بشكل ملحوظ. ذلك أن الطرفين محكومان بتوازن دقيق يتيح للمجتمع أن ينهض من كبوته، التي سقط فيها منذ قرون.
ولا يمكن للحقوق أن تستلب في مجتمع تحكمه قيم العمل والإنتاج، لأن العلاقة بين الفرد والآلة هي علاقة أخلاقية بالدرجة الأولى. مثلما أن الدخل السنوي مرتبط بالعلاقة بين النمو الاقتصادي والسلوك الاجتماعي. وإذا ما حدث خلل ما في هذه الأمور فإن من المستحيل الحصول على الحقوق كاملة غير منقوصة.
إن تقدم أي مجتمع يعني في النهاية أن حقوق أفراده مضمونة ومصانة. أما المجتمع المتخلف أو الفقير فلا يمكن الحصول إلا على القليل منها، لأن الواجبات لم تؤد بشكل سليم وكامل، ولأن التعامل مع الآلة واهن وضعيف، ولأن منظومة الأفكار لم تتحقق بشكل ناجز.
تبقى مسألة التوازن بين الاثنين رهناً بالكثير من الجهد، والمزيد من التفكير، حتى تتبدد الظلمة، وينبلج الفجر، ويسطع نور الحضارة. وفي ما عدا ذلك ستبقى هذه الأرض نهباً للأوجاع التي ما انفكت تئن منها منذ قرون طويلة.

محمد زكي ابراهيم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة