(العطر المحتبس) توافقية التجانس وشيفرة الخزن الارسالي

حامد عبد الحسين حميدي

إنْ تكن شاعراً، فهذا يعني أنك لا بدّ أن تكون مستعداً للمغامرة مع البوح والذات، قادراً على تحريك ما حولك من جمادات لتحولها الى مؤثرات طبيعية وأن تمزجها في بودقة تلملم أطراف ما يدور في خوالجك، وأنت تحرق كل ما تبقى من أوراقك لأجل ايقاظ روح التمرد مرة وروح العشق ثانية، أن تذهب بهما بعيداً في مطبات الخيال حيث الجمال الباطني المغمور في أتون الذات الفاعلة وجدانياً.
من هنا … نقرأ (العطر المحتبس) للشاعر (سفيان شنكال) الذي له دلالته الفاعلة في بثّ كل ما يمكن أن يمنحنا من خلال استخدام مفردة (العطر) لما لها من تأثير في تلطيف مكامن البوح ألاشتغالي، حيث تقنية الهيمنة المتفردة وهي تسوق الينا، المحسوسات في رسم معالم ذاتية خاصّة … لكن إن يكن العطر (محتبساً) فذا يحيلنا الى تخرين لذكرى باعثة في ابقائها زمنياً ضمن شيفرة الخزن الارسالي، فالشاعر متوهج بما لديه داخلياً يتعامل مع عطره على وفق نمطية المتناقض / الهادف دلالياً.
شعر « سفيان شنكال « فيه رمزية واضحة وجمال لغة بسيطة غير متكلفة، الشاعر يبني هذا وفق طبيعة روحه الشاعرة التي تعي ما يدور حولها وبتوافقية التجانس ما بينه وبين حبيبته والطبيعة، هذه الثلاثية التي اعتمدها « شنكال « في رصّ مفرداته وتراكيبه وبصورة تكاملية تمنحنا من قدرة التعرف على المدارات التي يسير على وفقها، ثلاثية لم يستطع الشاعر أن ينسلخ منها، كونه حاضراً فيها، ومهووساً في تقصي ابعادها ومنفياً في غمراتها، لذا نجده لا يتخلى عنها ولو للحظة واحدة، كما يطالعنا نفس الشاعر الطويل الذي أخذ صبغة: أن القصيدة مبنية على وفق نظام المقطوعات التي لها بعدها التماسي الحادّ في الكشف عن مكنونات النفس، ولا يخفى علينا كذلك أن « شنكال « استطاع أن يحوّل قصائده في هذه المجموعة الشعرية الى لوحات مرسومة وبطريقة رومانسية شفيفة .. هي أخذت مأخذاً فياضاً في التلاعب بمشاعرنا حينما ندقق فيها، حيث الامتزاج اللوني لكلماته الحالمة، حيث الطبيعة التي كانت تستحوذ على نصيب كبير في اشاعة روح التفاؤل على الرغم من بعض الحزن والاختناقات والأوجاع المبثوثة هنا وهناك، لكن ذلك لم يؤثر عليه عاطفياً.
اشتهيتكِ كقهوةٍ
تصحب الصباح إليَّ
توقظني من وهدة التوائي
ونهارُ أصابعي
عساهُ أن يحتضن الفنجان
ونرتشفَ البسمة معاً
وأحداقكِ تديرُ رَحَى اللقاء المرتقب! (العطر المحتبس -1)

هذا التخييل الشفيف، يمنحنا قدرة التفاعل مع معطيات الحضور الشاعري الضاغط، فالشاعر يعقد علائقية ذات ارتباطية هادفة ما بينه وبين حبيبته:
(اشتهيك) الشاعر
(كقهوة) الحبيبة
(نرتشف البسمة معا) لحظة تفاؤل …
هذا الهوس المتنامي داخليا وعلى تناسقية / تراتبية تنساب ضمنياً وعلى بعُدها البؤري لتحقق ما في دواخلنا من تجانس له محطاته العابرة في أتون الوله الرومانسي الشفيف، لقد هيّأ الشاعر تدرجات فعلية متناسقة: (اشتهيك / تصحب / توقظني / يحتضن / نرتشف / تدير) التي اشتغلت كمحركات ذات هيمنة اتصالية.
فوقَ عشب ثغرك
فراشة عشق أطاردها
كطفل ظل طريق العودة
إلى حيث الــ لا عطر
أنادي بملء الكلمات
ولا أصاحب الصبر
أحطُّ على كفِّك
لأجني ثمرة البحث عن الذات. (العطر المحتبس -17)
نلحظ أن صيرورة البحث عن الذات، تشكّل بحدِّ ذاتها وصلة مترابطة في فكّ شيفرة النص للوقوف على حيثياته الدلالية، هنا الحبيبة لها صبغة الامتزاج مع الطبيعة بتكوينها الجمالي، اذ منحها الشاعر ذلك، فمسارات عينيه لم تستطع ان تفلت من هذا التصوير التطابقي / حيث أن (عشب ثغرك / فراشة عشق) ضمن تداخلات متراصة، بينما يبقى الشاعر (كطفل ظل طريق العودة) إنه الارتباط الروحي الإسترجاعي في سبر اغوار الذاكرة ومحاولة استرجاع كل ما يلون الذهن المتعب بدفقة أمل تعيد تنشيط ذاكرة البحث.

تشيخُ وسادة الوحدة في نزفِ تأملاتها
تَسْتغيثُ إثركِ بوَحي الذّكريات
أنتظرُ دفئاً استطالتْ عودتهُ
باتَ الحلمُ فيه يلوي طرق الهداية
فيُستعْصى الخلاص. (منعرج الحلم)

للتأمل طاقته الكامنة التي تحيلنا الى قراءة ما يدور في خلد الشاعر الذي استطاع أن يوجه تلك الطاقة الباثّة نمطياً حيث التحولات الغاصة بشعور انعزالي / وحدويالتي لم تفتأ أن تهشّم كل بوح ذاكرة علها تكون حلما فيه لذّة الخلاص مما قد يكون، إنه نزفٌ متأرجح في تراكمية الذات الملتوية حيث:
وسادة الوحدة _ تشيخ
إثرك بوحي الذكريات
تستغيث
الشاعر _
انتظر دفئاً
إنها مراهنات الخلاص من استطالة ذكرى عابرة، تركت أثرها الانطباعي المتوشّم فينا.
تحتضن روحكِ جسدي
وتأخذه بعيداً عن البكاء
…وأنا في براري النزوح الموحشة
والاقتطاع المقدّر
وشوقي لدياري أصبح يقودني إليك (سطرك المستقيم)

بهذه الانسيابية يعبر من خلالها الشاعر فضاءات شاسعة لا يمكن أن تجزّأ، فما بين المحبوبة والتعلق بالديار والوطن والأهل والأحبة وكل ما يبعث على التمسك بهم جميعاً، يدسّ الشاعر « سفيان شنكال « هواجسه الماطرة في لملمة بعثرة نزوح فاتك لم يقوَ على الانفلات منه، كونه واقعياً أخذ مأخذه فيه، فلا مناص من التعرف على مهيمنات النصّ:
روحك جسدي تحتضن
بعيدا عن البكاء
تأخذه
النتيجة الدالة:
وأنا في براري النزوح الموحشة.
هكذا تشاكلت لدى الشاعر كينونات الحثّ الاستباقي، وهو يلتقط أنفاس العوده لدياره، التي لم يكن بعيداً عنه رغم قسوة الطارئ.
« سفيان شنكال « شاعر امتلك الادوات الفنية التي استطاع من خلالها تطويع مفردته وتركيبه الشعري، وبما ينسجم مع ما يحمله من روح شفيفة، قادرة على عبور خطوط النصّ المقيد بأعباء الترهل المتكرر.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة