مروة السراي
يبقى الفن الأدبي محاكاة للروح عندما تضيق بها السبل فينتج المبدع عوالم تسمو به عن واقعه الآسي، وهذه العوالم يخلقها في أجناس أدبية تتفرع حسب ذائقته وميوله ربما يكون شعرًا سواء أكان عمودياً أم تفعيلة, وربما يكون نثراً يضم الرواية والقصة والمسرحية وغيرها، ونتيجة لكثرة ما يظهر من فن إبداعي أخذ الكتاب يتجهون صوب كتابة الرواية التي جعلت من صوت المجتمع اهتمامًا لها عندما تكون في المسار الصحيح ، وقد أخذ هذا الفن يزدهر ازدهاراً كبيرًا كماً ونوعاً ، وأصبح إنتاج الروايات لا يتوقف على مدار السنة ، فهي اليوم واجهة الثقافة العربية وكتابها هم الأبرز مكاناً وحضوراً، وكان لتخصيص جوائز للرواية العربية دور في غزارة إنتاجها وتسويقها وانتشارها، فالقارئ يجد نفسه أمام كم كبير جداً من هذا الفن الذي عكس معاناة المجتمع بصورة أدبية مشوقة وهادفة تتلاءم ورغبته الفكرية فوجد نفسه أحد أفراد هذه الحكاية فالتجأ لهذا الفن الذي يتماشى مع الحياة في هذا العصر ، وما يدخل في بنيته من تعدد للأصوات والانفتاح الدلالي والاحتكاك الحي بواقع متغير وحاضر مفتوح النهاية.
فالرواية ليست مجرد نقد للحياة واحتجاج عليها بل هي تخلق حياة فنية من خيال لغوي يتصدى لتنظيم تجربة حية تهدف إلى تفسير الواقع لا إلى نقل التجربة كما هي. ومن هذا المنطلق أخذ الأدباء والقراء بالالتجاء إلى الرواية التي صورت معاناتهم تجاه الحياة.
أما الشعر الحداثي الذي أصبح فناً للنخبة ، فيلاحظ أن القارئ لم يعد بتلك الرغبة التي كان عليها تجاه ما ينظم, فقد شرع هذا الفن بالارتكان إلى الإفراط في الغموض، على الرغم من أن هذه الظاهرة بدأ التعبير عنها في العصر العباسي ودارت حولها سجالات النقاد بين مناصر ومعارض، لكن مبعث الغموض في الشعر الحداثي يتجاوز نظيره في الشعر القديم على امتداد تاريخه ومراحله، وهو تجل لاختلاف الأساليب الشائعة في العصر فقد كان استعمال المجاز من استعارة وغيرها يؤدي إلى الغموض الجزئي، الذي يدرك بعد مدة من التأمل ، لكن الاتجاه الآن أعرض عن هذه الأساليب وأتى بتراكيب شمولية ترمز إلى حادثة نفسية تحتمل التأويل والاختلاف شأن الرمز الذاتي الذي يشي بما يعتلج بالنفس ، أو الإشارة الرمزية الاحتمالية ، ومن هنا يبدو أن الشعراء وظفوا الرمز للغموض, فكأن هذا الرمز تطور من غموض جزئي إلى غموض كلي, وهو ما يسميه البعض بـ(ما بعد النص) , وكثير من النصوص الشعرية ابتعدت عن المحاكاة وبذلك ألغت أهم أركان الشعرية ، فنأت عن الانفعال والمؤثرات الوجدانية، ومن مظاهر الغموض والإبهام أيضاً أن بعض الشعراء يحاول تكلفا توظيف عنصر الكتابة، فالترقيم وطريقة الكتابة المتباعدة والفراغات والفضاءات والأشكال المتوازية كلها لها دلالات في النص تزيد من عدم فهمه لدى القارئ، وهذا بطبيعة الحال هو التأثر بالأدب الغربي الذي ابتكرها لحاجة اجتماعية قد لا تكون حاضرة في مجتمعنا.
وبما أننا الآن نعيش عصر السرعة واللمحة فإن القارئ لا يملك الوقت الكافي للإبحار في خبايا النص البعيد المآخذ، لأن الأدب متنفس يهرع إليه الإنسان ليريح عقله وروحه ليأنس به كما ينظر إلى الحدائق الغناء والمناظر الجميلة، لذلك لا بد أن يلبي رغبات الشريحة الكبرى من القراء، لا أن يؤدي غموضه إلى عزله في شريحة صغيرة جداً تنفد إلى مسالكه بصعوبة؛ لأن الشعر هو تعبير عن حالة لا شعورية، متفجرة من الأعماق، متحررة من قيود المنطق. لكن الشاعر ذهب في نظمه إلى تقصي ما وراء الواقع ساعيا إلى اكتشاف الجانب الآخر من العالم والنفاد إلى صميم الأشياء وجوهرها، والانفتاح على عالم الأساطير بغموضه وغرابته، هذا من جانب، ثم استعماله لغة شعرية جديدة لم تتعودها ذائقة القارئ من جانب آخر, كل هذا أضفى على الشعر العربي الحداثي غياباً دلالياً وتشتتاً في المفهوم ، جعل من النص الشعري لغزاً مغلقاً يقف أمامه القارئ العادي وربما الناقد المتخصص حائرًا تائهاً.