تشابك الواقعية وضياع الأفكار والمفاهيم

حسين السلمان

الاعتماد حرفيا على الواقع لا يخدم الفن أطلاقا ما لم يتم التعامل معه بصيغ تصهره ضمن رؤى العملية الأبداعية فيما يتعلق بالحكائية وأسلوب السرد، خاصة أذا كانت القصة الواقعية معروفة ومتداولة في كل مكوناتها وتشعباتها. هنا أود الأشارة الى أن هذه القصة قدمت عام 2005 كمسرحية من تأليف وأخراج راجي عبد الله وكان العرض جميلا لأنه ابتعد عن نمطية الواقع وتعامل مع الخيال الفني بشكل جيد، كما قدم كفيلم روائي قصير في معهد الفنون الجميلة عام 2012 من أخراج جواد صادق.
يتوجب هنا الذهاب الى العتبة الأولى للفيلم حيث جاء العنوان (أنا يوسف يا أمي) الذي يحتاج الى أكثر من سؤال: لماذا جاء بصيغة تقديم الذات؟ وهو أمر غريب أن يقدم الابن نفسه الى أمه !! ولماذا جاء (بفهم آخر) بصيغة الاستفهام؟ هل الأم لا تعرف أبنها ؟!!
وحين يبدأ الفيلم في تقديم نفسه للمشاهدين وعند عتبة التايتل الأول له تقابلنا معلومة صادمة وقاسية تقول ان الفيلم اعتمد قصة حقيقية. يعني أننا أمام واقع حقيقي والذي هو بحق سيطر على كل مجريات الفيلم من دون أن يقدم ما يجب أن تقدمه السينما من عناصرفنية وجمالية تقربنا وتمنحنا ذلك السحر الجميل الذي أعتادت على تقديمه السينما. فالواقع دائما يحتاج الى الخيال، انطلاقا من أن الخيال يمنح ذلك الواقع أبعادا وصفات جديدة منها خلق المتعة والتشويق، لانه ليس كل ما موجود في الواقع يمكن أن يكون فنا جيدا في كل الأعمال الأبداعية الأخرى (الرواية، القصة، المسرحية، اللوحة، الخ…
ولهذا فأن التقيد بمجريات واقعية القصة يأخذنا الى مناقشة شكل سينمائي قدمه الفيلم وقد خضع بالكامل الى الأسلوب المغلق في السرد والذي أيقظ رغبة المتابعة في المشاهد الأولى منه الا أنه سرعان ما انقطعت أواصر التلقي بفعل الارتباك الحاصل في فهم الأسلوب المغلق وكيفية التعامل معه في السرد. فالمؤلف ــ المخرج الفرطوسي أراد، بوعي منه ام بغير ذلك، أن ينتقل بنا عبر مدارس أخراجية سينمائية متنوعة. وارى أن هذا جاء حصيلة تأثيراته بالعديد من المخرجين (وخاصة المخرجين الأيرانيين) من دون توظيفها برؤية خاصة به وتتطابق مع واقعية القصة من أجل أن يكون هناك تلاقح ما بين الشكل والمضمون طبقا وانطلاقا من الواقعية التي بدأ بها الفيلم.
من الأمور المهمة في الفيلم هو ذهاب المخرج الى استخدامات اللقطة الطويلة التي تحتاج الى خبرة متراكمة ودراية في أسرار السينما خاصة فيما يتعلق ببنائها وتركيب عناصرها وشحن زمنها بتفاصيل كثيرة تمنحها قدرة التأثير والتأثر .وكلنا نعلم ماذا أراد هيتشكوك عندما قدم لأول مرة اللقطة الطويلة في فيلم الحبل ، وهي تجربة فريدة من نوعها أثرت تأثيرا كبيرا على حركة السينما العالمية حتى أنها مهدت الى ظهور تيار سينمائي جديد وهو ما أطلق عليه تيار فيلم اللقطة الواحدة كما في فيلم السفينة الروسية للمخرج الكسندر سوكوروف .
أن فيلم (أنا يوسف يا أمي) ضمن تشابكه هذا وخسارته في خلق روابط صلات مع المتلقي جاء نتيجة هذا التشتت في الشكل السينمائي الذي وضع فيه قصة لا تنتمي اليه. فاستخدامات الصمت في اللقطة، والحركة المصنوعة (خارج الفعل ورد الفعل ) والتكوينات المفروضة قسرا (خلق أثارة وانتباه للمتلقي من دون أحداث تأثير فكري أو نفسي )، كل هذا يريد به المخرج ان يقدم شكلا غرائبيا في الحركة ( حركة الموضوع ، حركة الشخصيات ، حركة الكاميرا ) فالمخرج هنا يريد ان ينتقل بفيلمه من الحالة المألوفة والمتداولة ( واقعية الحدث )الى حالة اخرى والتي يمكن تسميتها (انزياح الافكار ) في الشكل السينمائي الذي جاء ليضيف حالة من الركود على ايقاعية الحياة ( الحياة اليومية في الفيلم ) ويجعل من الشخصيات تتخذ مسارات لا تنتمي اليها كشخصيات واقعية ، أي أنها تتجرد من طبيعتها وخواصها وتركيبتها سواء في البناء العام للشخصية أو في التوجه الفكري الذي تحمله .وهذا أثر سلبا على عمل الممثلين ، لان الأسلوب والشكل المغلق لم يكن فاعلا في تطوير حكاية الفيلم ، كما لم يكن نافعا ومثمرا في حركة الموضوع ، بل جاء معرقلا ومقيدا لعمل الممثل (الذي ظهر جامدا ، باردا ، فاقدا لروحية التفاعل ) وهذا ناتج عن ضبابية الأسلوب وتشابك المفاهيم السينمائية التي كانت تتحكم في عمل المؤلف والمخرج على حد سواء .
من جانب آخر نجد أن الحدث لا يتحمل هذا الزمن الحقيقي للقصة الممتد لسنين طويلة ، مثلما نجده لو خضع لمفهوم الإيجاز السينمائي وقدم بذات الشكل الذي أراده المخرج لحصلنا على فيلم روائي قصير ينتمي الى موضوعه والى مكانه وزمانه ، بدلا من هذا الإسهاب المتكرر الذي لم يقدم أضافة جديدة في دفع الحدث أو نمو القصة أو تحولات الشخصيات التي جاءت أحادية الفعل ، كما في المشاهد المتكررة ذات الخاصية الواحدة في دخول وخروج الشخصيات ( الرجل ، الشابة ، الشاب وحتى الأبن يوسف ) ومشاهد كثيرة لم يكن لها تأثير فاعل في الفيلم . فثلما تقدم الفيلم بتلك اللقطة المثيرة للقارب في البحر والتي تكررت باستعارة سينمائية جميلة، كان من الأجمل أن يأخذ هذا المنحنى في البناء ويصبح الفيلم حينذاك قد تفاعلت به عناصر اللغة السينمائية ويكون أقرب الى حكايته وأفكاره الانسانية النبيلة.
يلعب المكان في فيلم (أنا يوسف يا أمي) أهمية كبيرة تخص كل مجريات الفيلم، ما يخص الحدث، وما يخص المضمون، وما يخص الشخصيات. وهذه هي العناصر التي يشتغل عليها المؤلف ــ المخرج الفرطوسي من أجل تقديم ما لديه من أمكانيات فنية واشتغالات سينمائية. أن هذا كله ناتج من تأثره بأفلام اشتغلت على العمل في حصر الأحداث في مكان واحد كما رأينا في فيلم اثنا عشر قاضيا وفي فيلم المذبخة لرومان بولانسكي. وضمن خارطة الاشتغال (خاصة الاشتغال الاخراجي) الذي لم يستطع التحكم أو السيطرة في تقديم المكان كعنصر درامي يدفع بالعناصر الاخرى ويتفاعل معها من أجل خلق قصة متماسكة، لكنه جاء عكس تلك الاشتراطات التي يجب أن يتمتع بها المكان. لذا كان فيلم (انا يوسف يا أمي) عبارة عن مجموعة من التاثيرات التي أخذت تتلاطم بالفيلم من جانب الى جانب أخر كمواج بحر عاتية لا تريد أن تسقر عند شاطيء ما.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة