ابتسام يوسف الطاهر
في كتابها (بلا رحمة- بيت عراقي مختوم بالشمع الاحمر) تنقلنا د. هناء سلمان من خلال مذكرات جمعتها عام 1980، موسم الهجرة والتهجير. وبخطوات وجلة معبرة وصادقة نخطو مع قلمها لنتجول في متاهات تلك اللطخة المعتمة التي وشمت جبين التاريخ والانسانية. امام صمت العالم المريب وقتها ازاء جريمة بحق الانسان وبحق وطن لم يعرف التفرقة وفتح ذراعيه منذ القدم لأقوام وطوائف متعددة. فكل طفل مشرد وكل ضحية بريئة لحرب اهلية او حرب عدوانية خطط لها الطامعون الجشعون، وكل لاجيء بسبب جوع او حرمان من حرية او هرب من تعسف وظلم حكام بلدانهم، هو عار على الانسانية جمعاء.
مذكرات د.هناء هي شهادة للتاريخ عن تلك الجريمة، يوميات واقعية عن حياة الكاتبة وعائلتها ومعاناتهم بعد انتزاعهم عنوة من بيتهم الدافيء في حي الحرية في بغداد. وحرمانها واخوتها من اكمال دراستهم وانتزاع احلامهم البسيطة والاحساس بالامان، في عام 1980 في الشهر الخامس، وهي السنة نفسها والشهر الذي خرجتُ به من العراق على امل العودة بعد شهور، لكن الشهور صارت اعواماً وعقوداً.
تلك المذكرات كانت محاكمة ايضا لمن صمتوا على تلك الجريمة، كذلك اسئلة بلا اجوبة واجوبة متأخرة موجعة. نعم هناك من صمت، والبعض الاخر شمت وهو يرى العراق يتحول على يد (حامي العروبة) الى سجن يمتليء باحبتنا. والمنافي تتقاذف احلامنا وابناءنا..نعم صمت الكثيرون خوفا مرة ولامبالاة وأنانية ايضا،معتقدين انهم في منجى، لكن يد العصابة طالتهم جميعاً. فصدام لم يستثنِ حتى رفاقه البعثيين، بل طالت مطامعه حتى حلفاءه العرب ليغزوهم بناء على مخططات اميريكا. فتشرد الالاف ودمر اقتصاد البلد وقتل خيرة شبابه.
الوزير البعثي جواد هاشم في كتابه (مذكرات وزير عراقي) يحكي عن كم البعثيين الذين قتلوا على يد رفاقهم في الحزب واهوال المؤامرات والاغتيالات، على غرار عصابات المافيا، قد طالت وزراء وقيادات بعثية قطرية لها وزنها!
مشاعر الكاتبة الوطنية تقودها الى تبرئة الوطن مما تفعله الحكومات، وامنيتها ان يصحى البعض ويعود الشعب متآخياً مثل قبل «لو رجعنا الى التضحيات التي قدمتها كل طوائف الشعب،بوجود النظام الدكتاتوري سنجدها متساوية..فكلهم قدموا تضحيات واضطهدوا من قبل النظام..وكم تمنيت ان يكون وعي ابناء وطني عالياً وان يضع اللوم على حكومة البعث ..وان لانهدر دماءنا في التفرقة واخذ ثارات….متمنية ان نرجع شعباً نعيش بسلام ومحبة واخاء وان نتوحد لنعطي الاجيال المقبلة كل ماتعلمناه من اصول انسانية بعيدة عن التعصب والظلم»ص210
ثقافة الكاتبة ووعيها جعلها تسلط الضوء على معنى الوطن والاعتزاز به على عكس الكثيرين ممن يتناسون العدو الاول ويتهمون الوطن بكل ما اصابهم «كان الوطن لنا هو الانتماء الروحي والهوية، هو طيبة امنا الحنون التي تجمع ابناءها تحت سقف واحد..هو الطفولة والحب، وها نحن في المنفى ومازلنا نفكر بما يحدث وشعورنا ان بلدنا جريح ونحن مثله حتى لو تشردنا باسمه، كلانا كالغريق يبحث عن قشة النجاة» ص128
تقودنا الكاتبة من خلال عمل سردي مفعم بالمشاعر الصادقة والاحداث الصادمة بلغة سلسة بلا تزويق ولا انشاء ولا بحث عن مفردات غرائبية مفتعلة. فنمر بازقة الخوف البعثية المعتمة فنشعر بالخوف، ونبكي معها وهي تصف بكاء امها..ونبرد وهي تصف معاناة المهجرين في الخيام في مواسم البرد القارس. لكنها وسط تلك العتمة، تمدنا ببصيص من الضوء بين الحين والحين الاخر لتنقل لنا المضحك المبكي من طرائف تخلقها المواقف لأناس تحدوا الظلام والموت ليواصلوا الحياة باصرار، لتنتصر الابتسامة بالرغم من كل المحاولات المستميتة لسرقة الابتسامة والامل مع سرقات حقوق المواطن وحريته ..ولحد الان مازالت تلك المحاولات يقودها وزير الكهرباء مرة واعضاء البرلمان مرات..
ومن تلك المواقف انهم في اولى محطات التهجير، كانوا يستمعون لأغنية فريد الاطرش، فتعالى بكاؤهم وهم يتساءلون معه (ليه الظلم ليه، ليه القسوة ليه..) وفوجئوا بالحارس الايراني يبكي بحرقة مثلهم، عرفوا انه كان يعتقد انهم يستمعون للمقتل!
وفي ص114 تروي لها ابنة عمها عن تهجيرهم وزجهم في الشاحنات من دون السماح لهم بجمع اغراضهم. فمدهم الجيران باكياس ثقيلة بعيداً عن اعين رجال الامن البعثيين. اعتقدوا ان فيها بعض ملابسهم الشتوية، ليكتشفوا بعد نزولهم من الشاحنات وحمل تلك الاكياس الثقيلة انها كانت مسامير صدئة وقطعاً حديدية جمعها اخوتها من ورشتهم لرميها لاحقا!
ومن خلال حديثها عن بعض التقاليد والعادات العراقية والطقوس الدينية والاجتماعية مقارنة بما في ايران، مأخوذة بذكريات غربلتها الغربة والبعد عن الوطن، منها المهر الذي يطلبه اهل العروس وعادة مايكون تعجيزياً، ان جدها حين تقدم لخطبة جدتها اشترط ابوها ان يأتيه بكيلوين من اجنحة البرغوث! ص127
وعن التشابيه التي تقام عروضها في آخر يوم من عاشوراء، ان زوج عمتها لوسامته وقوته الجسدية كان يطلب منه تجسيد شخصية ابي الفضل العباس، فكانت النسوة يتباركن به ويرشنه بماء الورد..لكنه حين جسد دور الشمر قاتل الامام الحسين عليه السلام، صار الكل يضربه بالحجارة ويشتمه! متناسين انه ابن حارتهم ومايقوم به هو تمثيل!
كُتب الكثيرعن مأساة تهجير شريحة كبيرة من العراقيين بحجة تبعيتهم لإيران، وعن الذين هُجّروا بطريقة قسرية ولكن غير مباشرة، حفاظاً على الكرامة، ومن اجل ايصال صوت الوطن للعالم، لكنهم فجعوا بأن العالم اغلق اذنيه ووضع على هذه براميل بترول وعلى الاخرى رزم الدولارات!
فالروائي الرائع نصيف فلك في روايته (عين الدود) التي كانت عيناً على مأساة العراقيين ومنهم المهجرين في ايران. فاحد ابطال الرواية اتخذ من غرفة صغيرة في قبو معتم محلا لتزوير وثائق للمهجرين بعد ان انتزع البعث الصدامي هوياتهم وكل ممتلكاتهم ورماهم على الحدود في العراء، لتسهيل سفرهم لاوروبا ولانقاذهم من غائلة الجوع والتشرد والاحباط النفسي الذي ادى ببعضهم للانتحار، برغم مطاردات الشرطة الايرانية التي لم تمنح وثائق ولا هويات لهم. «(كوجة مروي) محلة تعج بكل انواع السحر والاغواء وعقاقير علاج الغربة وادوية سد النقص الروحي ..في كل صباح تفتح كوجة مروي عيونها على وجوه المسفرين او المهجرين او المرحلين او التبعية كما يسميهم صدام والبعثيون الذين رموهم على الحدود الايرانية مع ان جذورهم عميقة في ارض الرافدين ..وجوههم تجعدت وشاب شعرهم من شدة الادمان على حلم الرجوع الى العراق».ص70 (عين الدود)
حتى الكتاب الذين لم يروا ايران بعضهم ضمّن كتاباته فصولا من خيالهم عن تلك المحنة مستندين الى قصص سمعوها من زملاء الغربة المهجرين او ما تتناقله الاخبار عن حال اللاجئين هناك، ممن سنحت لهم فرصة الهرب من ذلك القمقم واللجوء الى اوروبا. مثل رواية (صمت الشوارع وضجيج الذكريات). وغيرها من الروايات والمذكرات. لكنها بقيت محصورة بين العراقيين بسبب تقصير الاعلام العراقي بكل اشكاله وتنوعاته، فلم تصل للعرب المناصرين لحامي البوابة الشرقية وقد اغرقهم بالدولارات المسروقة من الشعب العراقي، واليسير منها وصل الغرب الذي يومها لم يحفل الا بكميات مايصله من براميل النفط!