ابتسام يوسف الطاهر
قال عنها ابنها السياب:
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر… او شرفتان راح ينأى عنهما القمر
عيناك حين تبسمان تورق الكروم…وترقص الاضواء كالأقمار في نهر
الصورة الاولى هي من خمسينات القرن الماضي ربما. او من ايام السياب قبل الرحيل.. الشناشيل قديما وهي تطل على مجرى مائي فقد عرفت البصرة بجداولها المائية تتهادى بين ازقتها والشوارع.. بعضها يتسع لمرور قوارب وزوارق فتشكل خاصية جميلة للمدينة التي يلتقي فيها العاشقان الاشهران دجلة والفرات. فالبصرة، مدينة النخيل والثقافة والأدب، مدينة الخليل بن أحمد الفراهيدي وبدر شاكر السياب، مدينة الموانئ والخير، مدينة الذهب الأسود، يشدك تراثها المعماري الذي ميزها عن بقية المدن العراقية، حيث تستطيع أن تشاهد «شناشيلها» التي تعبر عن مدى التقدم الحضاري في مدينة كانت من أوائل الأمصار الإسلامية التي شيدت في عصر عمر بن الخطاب.
والشاعر حافظ جميل قال عنها:
ان كان ماء العين سح لبعضهم فلطول عمر الاخرين دعائي
ولأهبطن بأيكها متضللا بوريف مافيه من افياء
فخر البلاد ارومة وحضارة ام النوابع دارة العلماء
بينما في الصورة الثانية يفجعك المشهد فبدا لنفس المكان او الشارع، لما تبقى من المجرى المائي وبقايا الشناشيل تطل عليه تشكو الاهمال والتداعي..الساقية او الجدول تحول الى مجرى مفتوح للاوساخ تكاد ان تشم رائحة الماء الراكدة العفنة والنفايات من كل نوع تغطيها. فتخطيط المدينة ومعمارها سابقا يتماشى مع جوها وطبيعتها المناخية فجداول الماء وهي تتهادى بين الازقة والشوارع تمنحها برودة وتلطف من الحر اللاهب في فصل الصيف. ومنازلها ذات الشناشيل الخشبية والزخارف هي الاخرى صممت لتلائم المناخ الحار الرطب..حتى الطابوق المستخدم في البناء له ميزة بتحمل الحرارة والاحتفاظ بالبرودة اكثر من الاسمنت والمواد الحديثة التي صارت تستخدم في البناء، مقلدين البلدان الاوربية الباردة في الاكثار من الشبايك الزجاجية الواسعة وهذه الاخيرة تحول البيت الى مايشبه المزارع المغطاة التي تبث الحرارة والرطوبة العالية!
بينما غابات النخيل تمد المدينة بجريد النخل الذي بالامكان استخدامه لتصميم شناشيل حديثة على الطراز القديم فهو اكثر تحملا للحرارة من الخشب العادي اضافة الى ميزته القوية وبرودته ايضا.
الفنان والنحات البصري أحمد السعد، في حديث لاحدى المواقع على الانترنت قال: من الصعب الحديث عن (الشناشيل) وأنا أشاهد كل يوم موتها بصمت دون محاولة من أي شخص لإنقاذها، بعد ان احتلت وتجاوز عليها اناس لا يعرفون قيمتها المعمارية ولا التاريخية.
والدكتور وسام صبيح الرئيس السابق لقسم الهندسة المعمارية في جامعة البصرة قال: (الشناشيل) هي عبارة عن شرفات خشبية مزخرفة تغطي الطابق العلوي للبيت، مصنوعة من الخشب، وزينت بزخارف غالبيتها إسلامية، تشكيلات متداخلة من الخشب الخفيف… استخدام الخشب في البناء يزيد من برودة البيوت، ويمنع أشعة الشمس من الدخول في مدينة تمتاز بارتفاع درجات الحرارة فيها، كما أن امتداد تلك الشناشيل خارج البيوت وعلى طول الأزقة الضيقة يحجب أشعة الشمس عن تلك الأزقة ويوفر ظلا يلطف الجو فيها».
هناك بعدا اجتماعيا في بناء الشناشيل في البصرة، كما قال الدكتور صبيح، تقارب الشرفات (جمع شرفة) بين الجيران، حيث يكون حديث النساء في تلك البيوت بسهولة ودون اطلاع من في الشارع عليهن، مما زاد الحميمية بين أبناء المنطقة الواحدة، وهذا ما نفتقده اليوم في فن العمارة الحديث.
صدﮒ شطك يابصرة مزاعل الماي..وصدك من كثر العطش تبـﭽـي البساتين؟
وصدك حملچ وﮔـع ويريد تچاي..لـﭽن اهل البخت كلهم مساجين؟
وصدك درب الكلافة ماله شراي..وعلى دروب المشوا بعدچ تتانين؟
اليوم لا المهندس ولا المقاول معني بالبيئة والمناخ الذي يميز تلك المدينة عن غيرها ليكون البناء ملائم لها ..بل ولا حتى الوزير ولا البرلماني يفكر بالكوارث التي تعيشها مدن العراق وليس البصرة وحدها، خاصة ومشكلة الكهرباء المزمنة تجعل من استخدام الحجر والاسمنت والزجاج في البناء الحديث (تقليدا اعمى لما هو عليه في بعض البلدان الباردة) اشبه بمحاولة تعذيب متواصل للسكان وللشوارع. ليضاف لها اهمال الجداول المائية وعدم تنظيفها بل وجعلها مكب للاوساخ ليزيد من محنة السكان بارتفاع درجات الحرارة والرطوبة والروائح الكريهة.
وكم ذرفنا ليلة الرحيل من دموع…ثم اعتللنا، خوف ان نلام، بالمطر
وكل دمعة من الجياع والعراة..وكل قطرة تراق من دم العبيد..
فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد
مطر مطر