ابتسام يوسف الطاهر
بدايات الخريف في البصرة يراها البعض جنة. الجو معتدل ينعش الروح في طلائع الصباح. لكن زحام السيارات وصياح السواق وتزاحم الجنود العائدين من وحداتهم العسكرية وصياحهم فرحين بالاجازة القصيرة لبعضهم، والاجازات الطويلة للجرحى منهم، جعلته يشعر بالاختناق.
صعد الحافلة بتثاقل، شعور بالحيرة انتابه فهو ذاهب لأهله بعد غياب شهور ويده خالية! وكان قد وعد اخوته بهدايا وحلويات، لم يشترِ منها غير (الخُرّيْط) ..”هذا طابوق” علق اخيه الاصغر في الإجازة الماضية. فأجابه الآخر “يافاهم انه تراب الطابوق بعد طحنه يخلطوه مع السكر ليصنعوا منه تلك الحلوى الصلبة”. ضحكت امهم وصارت تشرح لهم كيف يصنعون تلك الحلوى من القصب. لايدري كيف يتسنى لزملائه شراء الهدايا مع انهم يتقاضون تلك الدنانير الاربعة مثله.
ناداه زملاؤه ليجلس معهم في (خانة الشواذي) كما يسمون المقاعد في اخر السيارة. وقبل ان يجيبهم حط عليهم طير الصمت فجأة. التفتَ صوب الباب ليرى الراكب الذي ألقمهم حجرا!
كانت شابة رشيقة بفستان جميل..صفير البعض استفزه بل ايقظه من ذهوله “ربما هي اخطأت الحافلة” اندفع صوبها ليحميها من عيون تكاد تلتهمها. شعرها بني ينسدل حريرا على الكتف. لم تضع مساحيق تجميل مع هذا كانت جميلة وجذابة.
“اختي، الى أين انت ذاهبة؟ هذه الحافلة لبغداد” نظرت لعينيه فخفق الفؤاد، وقالت بصوت خافت متحشرج “بلى أنا ذاهبة لبغداد” قادها لمقعد فارغ لتجلس قرب الشباك وجلس بلا تردد بجانبها ليحميها، من بعض (الشواذي) كما قال بصوت اسمعه للبعض ممن تطلعوا له باستنكار وحسد.
همس لها بتردد واحراج “اسمحي لي، سأدعي انك قريبتي لكي لا يسيء أي منهم لك”.
تهامس الاخرون “يامعود..من اين له قريبة مثل هذه.. اقراباؤه حفيان مثله هههههه” “بلى لديه قريبات من بعيد.. بناتهم سافرات، طالبات.. “مسوي روحه زاهد وعابد.. كله بلاوي..مثل رافد” فضج الاخرون بالضحك “من هذا الرافد؟”.
“لا احد.. بس للضرورة الشعرية”. ضحك معهم فنظرت صوبه بشيء من الخوف.
“لا عليكِ البعض يسمي الهراء الذي ينطق به شعرا.. المهم ما حكايتك؟”.
ترددت طويلا، ولمح دموع تتلألأ في مقلتيها. ثم همست “كنت مستعجلة واشاروا علي إن هذه الحافلة ستنطلق لبغداد بعد دقائق….” فطمأنها. ثم اشترى لها طاسة ماء من طفل مد يده من الشباك ليبيعهم الماء من سطل. لم يكن معه نقود كافية لشراء علكة أو شوكولاتة من التي يبيعها الصغار.
أخيرا زئرت الحافلة، وراح مساعد السائق بجمع مبالغ الأجرة. لمح احمرار وجهها “هل ممكن ان ادفع فيما بعد..اخي ينتظرني وهو سيدفع له”. ابتسم لها مطمئنا اياها “لاعليك سنتدبر الأمر”.
استدان المبلغ من زميل آخر وضعه المادي افضل.. خريج جامعة يؤدي خدمته الالزامية ولسوء حظه اشتعلت الحرب.
احتار بامرها اكثر كيف تسافر بلا نقود ولا حقيبة سفر. شبكت يديها في حجرها، اصابعها رقيقة. ابعد نظراته عنها شاعرا بالندم.. “كل البنات اخواتك وعليك حمايتهن حتى من انفسهن” هكذا علمه ابوه.
انتبه لها تحدثه وهي تنظر امامها “حين نصل البيت سيدفع لك اخي المصاريف..أنا آسفة لقد جلبت الحقيبة الخطأ” تمنى لو يحتضن كفها وقد لاحظ ارتعاشتها “ارجوك الأمر لا يستحق.. فهو مبلغ بسيط..حاولي أن تنامي، النوم يقصر المسافات”. ثم تذكر كلمتها (حين نصل البيت) هل تعني إن اخيها لا ينتظرها في موقف الحافلة! هل عليه أن يرافقها للبيت؟ اذا كان الامر لإعادة اجرة السيارة فالموضوع لا يستحق العناء.
“انت انسان طيب….أنا متزوجة من مهندس نفط يعمل في البصرة، ندمت على الساعة التي عرفته بها وصممت على الزواج منه وعاندت اهلي.. متحجر لاعواطف ولا احساس بالمسؤولية.. تحولت الحياة معه الى جحيم فقررت ترك كل شيء والعودة لأهلي…”
اطلقت آهة اودعتها بعض الالم لكنها تحولت لبكاء صامت اهتز له جسدها. فوجد يده تمتد لرأسها ليضعه على صدره مهدئا اياها. ارتاحت يداه لملمس الشعر الحريري وانعشه عطر الصابون. كيف لزوجها أن يتركها تذهب وحدها..ياللغباء والجبن..
ارتاحت على كتفه وبعد لحظات ساد الصمت كل الحافلة ماعدا مايبثه راديو السائق من الحان واخبار وبيانات عسكرية تزف الانتصارات الوهمية..وشخير بعض الراكبين.
انتبه الى تباطؤ انفاسها فعرف انها نامت، حرص على أن لا يوقظها. بل حاول ضبط تنفسه لتواصل نومها.. ولكن محاولته تلك جعلته يشعر بضيق.. ألقى رأسه للخلف لينام.. لكن هيهات.. تخيل لو كان هو متزوج، هل الغضب سيعميه ليترك زوجته لهكذا موقف! ربما هي اوصلته لتلك الحدود “المرأة سبع والرجل كلب” سمع جدته تقول لأخته يوما.. فرح يومها معتقدا إن الرجل اكثر وفاء! لكنها افهمته ان الرجل ضعيف يتبع نزواته، بينما المرأة اكثر قوة وتعرف كيف تقود ذلك (الكلب).
تأمل الشوارع المتربة واختفاء طبقة الاسفلت بعد طول اهمال..على جانبيه اراض جرداء قليل منها مزروع.
صحا على يد زميل اخر يمده بقطع حلوى الكليجة بالتمر “صنعته قريبتي من اهل البصرة زوادة الطريق” شكره “ينراد وياها شاي”. سمع السائق كلامه “بعد لحظات سنقف استراحة “.. هلل الجميع للخبر. صحتْ هي محرجة. ابتسم لها واعطاها قطع الكليجة.
“اخي ضابط كبير في الجيش..سأحكي له عن شهامتك واكيد سيكافأك لعله ينقلك لوحدة عسكرية في بغداد..بل ربما يسعى لترقيتك.. من أين انت في بغداد ؟”
سرح خياله بعيدا مع الوعود تلك..يترقّى لضابط مثلا! “كيف ساتعامل مع الجنود حينها؟ هل سأتحول الى ساخط معاقب لهم على اي هفوة..أم سأكون رحيما بهم!”.
انتبه لسؤالها مرة اخرى. فقال “انا من مدينة الثورة..”.
هي مصرة على توصيلها للبيت.. خوفا من ان يلاحقها احد المجانين الحاقدين على الاغنياء والضباط والحرب وهذا الزمن اللعين. فاثناء الاستراحة عرف الاخرون عن اخيها.
لم يبالوا بحرارة الشمس المرتفعة حين وصلوا عصرا. فشوقهم لهواء نقي بعيد عن البارود والقنابل وازيز الطائرات وجحافل المدرعات.. شوقهم للاهل والاحبة انساهم الحر. طلبت منه ان يوقف لها تاكسي..غمزه الاخرون، فتطلع اليهم مؤنبا. أراد أن يستدين اجرة التاكسي لكنها اسرعت لتوضح له “لا داعي فأخي من سيدفع الاجرة هكذا سأشرح للسائق لكي لا يستغفلنا” فاطاعها وفكر ضاحكا حقا “المرأة سبع”..
“لماذا تضحك؟ بعضهم يستغلون الراكب، حين يرى المسافة طويلة، يختلق أي حجة لينزل الركاب في منتصف الطريق”.
عجب للتغيير الذي طرأ عليها، انزاح عنها الخوف والقلق والحزن، فهي الان في ديارها. ومطمئنة لذلك الرجل الذي هداه الله ليعينها، لكنه من الثورة، اين ترى ذلك الحي فلم تسمع به من قبل!
قطعت التاكسي طرقا طويلة وعبرت جسورا، لم تكن بغداد بهذا الحجم من قبل. كان صغيرا حين تركوا العمارة وحطوا الرحال في مدينة الزعيم، مدينة الثورة.. القليل جدا صار يسميها مدينة صدام..المدن مثل الناس يولدون بإسم فكيف يغيرونه بين الحين والحين الاخر!
مرت التاكسي بشوارع عريضة بعضها ليس فيه غير بضعة منازل بحدائق واسعة.. بينما ثورتهم كل شارع فيه عشرات المنازل المتلاصقة، يتحايلون على البناء ليجعلوا لهم حديقة.. “ها قد وصلنا..الحمد لله على السلامة” ايقظه صوتها.
“حسنا مادمت اطمأنيت عليك..سأسرع الان لأهلي”. سحبته من يده، كانت كفها ناعمة وباردة، اطفأت لهيب يده الساخنة. “لابد أن تقابل اخي..وتتغدى معنا”.
فتحوا لها الباب وارتمت في حضن امها باكية.. تعالت الأصوات متسائلة محتجة. لم ينتبه له احد.. فكر ان ينسحب بهدوء.. لكنها التفت له ضاحكة والدموع مازالت على خديها “تعال..يا الهي لم اعرف اسمه للان..تفضل، هذا الشاب انقذني من ورطة لم اتخيلها” صوتها صار واضحا كالماء الرقراق. وحكت بسرعة..فسلموا عليه شاكرين. لم يشاركونها دعوته للغداء. ثم همست لأخوها فأقبل نحوه.
“تفضل معي”. تبعه حيث غرفة الاستقبال، كان طويلا ضخما شاربه يغطي شفتيه، سوادهما حالكا مع بياض وجهه، الذي لم تلوحه الشمس ربما. “كيف ضابط وفي حالة حرب ولم ير الشمس!”.
“شكرا جزيلا لك على موقفك الشهم..اطلب اي شيء.. دعني اولا استحثهم ليجلبوا لك شيئا تشربه”.
تطلع حواليه، الصالة وحدها تعادل بيتهم والجيران معا! كل شيء فيها يلمع كيف لأمهم المسكينة تنظيفها كل يوم..امي دائما تشكو ظهرها وهي تنظف صالتنا الصغيرة التي نستخدمها غرفة نوم لي ولأخوتي.. فغرفتا النوم واحدة لوالديّ والاخرى لأخواتي.
دخلت هي مرحبة، عيناها حمراوان من كثرة البكاء وربما التعب “انهم يجهزون الغداء..آسفة على تأخيرك.. فأخي غاضب من زوجي..على كل حال سنوصلك لبيتك بسيارته أو سيارة أمي. لم تقل لي اسمك.. اسمي باهرة”.
ابتسم لها شاكرا “اسمي عبد علي”. ضحكت وهي تمده بورقة وقلم “اريد ان تكتب لي اسمك الكامل ورقم الوحدة العسكرية لأذكّر اخي ليسعى في نقلك لبغداد..هذا اقل ما يمكن أن اقدمه لك”.
كتب اسمه والمعلومات “لم افعل غير الواجب” تطلعت للورقة ضاحكة “عبد علي عبد الحسين! ما الذي اعجبهم من اسم عبد ليسموكم انت وجدك! اسفة لتطفلي”.
امتعض من ملاحظتها “هذا اسمي واسم ابي..اسماؤنا مركبة..”. شعر بتعب، بعد لحظات استطالت عليه حتى فكر بالانسحاب دون توديعهم. لكن الاخ دخل بابتسامه فاترة لا لون فيها.
“انت من مدينة الثورة؟” هز رأسه أي نعم. “هممم .. حسنا سأحاول السعي بموضوع نقلك للتاجي .. وهذا مبلغ بسيط،.. ولكن انشاء الله ما اقصر بموضوع نقلك”.
“الامر لايستحق، لا اريد المال فاختك اعتبرتها ضيفة..وسأكون شاكرا لو حصل أمر النقل لأطمئن امي” اضطر أن يقف لأن الاخ بقي واقفا ثم قال بشيء من التعالي “خذ المبلغ على الاقل تسدد دين اجرة السيارة.. سأنادي على السائق ليوصلك للبيت أو أي مكان تريده”. ثم سار أمامه ليستحثه على الانصراف.. اذن لينسى موضوع الغداء فطعام امه اطيب واشهى مع اخوته.
حضر السائق، رجل اشيب قصير ومنتفخ البطن. ثم جاءت هي مسرعة “الى اين؟ الا تبقى معنا للغداء؟” نظر لها اخوها فكفت عن الالحاح. صافحته “لم اوفيك حقك من الشكر..” ثم فوجيء بها تعانقه وتطبع قبلة على خده. شعر باحراج ولم يتطلع صوب الاخ.
بعد شهور سألتْ اخيها عن عبد علي.. فصدمها حين قال “للاسف، سمعت انه اسشتهد في احدى معاركنا على الجبهة.. تصورتك نسيتيه!”.
لندن 2018
* عن قصة واقعية بتصرف