بقايا وطن

شكر حاجم الصالحي

من صيدا اللبنانية تحاول الفنانة التشكيلية والشاعرة كوكب الهامس ان توثق لنا تجربها الحياتية والانسانية في كتابها الانيق (( بقايا وطن )) الذي كرسته من خلال مقاطعه الــ [ 104 ] ان تكشف عن ثراء مشاعرها واصطخاب توتراتها اليومية وهي تعيش ازمات العيش اللا انساني التي افرزتها ظروف اللجوء وحياة المخيمات القاسية بعيداً عن تراب الوطن التي مازالت تراه في الذاكرة المتعبة , والهامس لا تنفرد عن ابناء جيلها المقهورين بهذه السمات والأوجاع التي خلفتها تجارب الأرتحال والنفي والوقوف على ابواب المنظمات الاغاثية , وهي من وطن مازال ينتظر الأمل القادم ليزيح عن ترابه ذل الهمجية الاستيطانية وحراب الغزاة وسرف دباباتهم , ورغم ان قارئ ( بقايا وطن ) لا يفاجئ بفيض المشاعر المكدسة , إلا انه ( قد ) يجد ان الشاعرة قد بالغت في جعل اصدارها كله مكرساً لقضيتها دون ان تترك ولو فسحة صغيرة لمكابداتها الانثوية واغترابها في خضم ظروف لا تليق بادميتها , لكن القارئ النابه سيكتشف ان ــ الهامس ــ أدمجت الخاص بالعام من خلال مقاطع كتابها هذا , وهي بذلك تحقق ــ كما ازعم ــ حضوراً لافتاً يعبر عن محنة الوجود في مثل هذه الملابسات الحياتية , حيث اصبح الوطن هو البيت , والقلب هو الامل النابض بالعودة الى الحياة الأبهى ــ والابناء في النصوص هم الشهداء والجرحى و القابضين على السلاح , وهكذا تمتاز مقاطع ( بقايا وطن ) بحرارة التجربة وصدق الانتماء والأيمان بالمستقبل , و السعي للعبور الى ضفة السلام والمحبة والعيش الرغيد ,
ان تجربة كوكب الهامس في بقايا وطن , تستحق ان تنال القراءة الجادة لتكون انموذجاً شعريا يتغنى به المضطهدون في مشارق الارض ومغاربها , رغم ان ـــ البعض ـــ قد يلمس انزلاق النصوص الى صياغات انشائية / تقريرية و اشبه ما تكون قريبة الصلة بالتقارير الصحفية التي تفسد التجربة وتحط من قيمة الشعر في بعض مفاصلها , إلا ان هذا لن يكون طاغياً على تجربتها التي زادت على ( 138 ) صفحة هي كل ما ضمه اصدارها من مقاطع شعرية توزعت اشكالها بين قصائد التفعيلة وانثيالات النصوص النثرية الجامحة :
من ليس لديه
ذرة احساس وطني
لا يستحق
ان يكون له وطن
يحتويه ….. ص 18
و ……
مهما تغرينا
تبقى مشيمتنا معلقة
بخيط من حنين
بالحبل السري
لرحم الوطن ….. ص 35
و ……
انا سكرانة / بحبك / يا وطني / و السكر عند البعض (( كفر )) / أعلن / بأعلى صوتي / انني :/ أكبر كافرة / بهذا الكون / لأجلك يا وطني / تقرع كل كؤوس الارض / والسماء / كأس سكرك / لا يقدّر بثمن / سأشربك / حتى الثمالة / أصرخ بأعلى صوتي / (( كأسك يا وطن )) …. ص 38
وهناك الكثير من نصوص بقايا وطن من تصح عليه مثل هذه التوصيفات السابقة , لكن ما كتبته كوكب الهامس لا يعدو ان يكون شهادة أمينة على زمن عاهر أهينت به كرامة الانسان واستبيحت حرماته , وهذا الاقتراب من لغة الصحافة لا يقلل من قيمة هذه المجموعة التي احتشدت بالكثير من المعاني وحفزت فينا ما خبا من جذوة الأمل والايمان بغد مشرق سعيد ….
ويكتشف القارئ بعض التناصات مع نصوص خالدة , ربما لم تكن الشاعرة قد استخدمتها بقصد غير قصد الاندماج معها والانتماء لها بروح نقدية مفعمة بالحيوية والمشاركة الوجدانية …
مثل : أشـــــهد
أن
لا
وطناً
لي
إلا
أنت …. ص 64
وارى ان النص ( قباني ) الأصل والذي يقول (( اشهد إلا امرأة إلا انت ))
ومثل :
الموت في وطني
مجاني
فكيف لي
ان اكتب عن
الحب …. ص 109
وهي في الأصل من روح الشاعر التركي ناظم حكمت : (( من أين يأتي الحب يا حبيبتي ونحن محكومون بالإعدام )) وهناك الكثير من الشواهد عن مثل هذه التناصات إلا ان ما يشفع للشاعرة كوكب الهامس في تمثلاتها هذه هي مساحة الصدق التي غمرت نصوصها وجعلت القارئ يعيش معها أمتع لحظاته منتشياً بقوة الارادة وعفوية اللغة واحتدامها واصرارها على ادانة كل ما هو قبيح ولا انساني …
ومن جميل نصوص بقايا وطن المقطع ( 73 ) الذي تقول قيه كوكب الهامس :
سأقتحم السموات السبع / سماء سماء / افتش عنك / حتماً … سأجدك في
طيات الغيم / قطرات من روح / الانبياء / مختبئاً تحت أجنحة الملائكة / ياساكن الاعالي / ابق في الاعالي / كي لا يدنسك / الانسان / وثعالب / الارض / ياوطني /
و أخيراً لابد من الاشادة بتجربة الشاعرة التي صممت غلاف مجموعتها ( بقايا وطن ) ومنحتنا الأمل والتطلع الى الجمال والسعادة التي تبحث عنها كوكب الهامس في هذه التجربة التي انجزتها بمشاعر صادقة وشكراً لمن منحنا هذا الألق الشعري الجميل.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة