صفاء ذياب.. شاعر الفوتوغرافيا ومكتشف رمزية المهمل وشعرية التفاصيل

(3-5)
ناجح المعموري

الباحث وراء المحو الذي ترك أثاراً له والخدوش التي هي ندوب الماضي ، المتروكة على خشب الأبواب أو حديدها . هذا الحديد الذي صرخ بصدئه الملون وهذا أمر غريب ولا يصدق وجود صدأ ملون كما تبدّى في أكثر من صورة تمركزت حول إغلاق الباب وأكثرها هيمنة هو الذراع الحديدي المثبت بجانب من طرف الباب الأول ويمتد متحركاً نحو الطرف الثاني من الباب ويتعشق بؤرة حديدية خاصة ومن بعدها اشتغال القفل الكبير. هذا الذراع الحديدي الملون النتوءات والخدوش وقد حفر علامة له على سطح الباب ولا ادري لم تذكرت أغنية فيروز الأبواب التي كتبها المرحوم فليمون وهبة ، أنها من أكثر الأغاني الفيروزية أثارة للشجن والحزن ، لأنها سردية ملحنة عن الغائب والعائد ، فالحياة أبواب وأمنية الأغنية وحلمها أن تظل الأبواب مفتوحة ، لان انغلاقها يعني الفناء أو الهجرة / الغياب . الأبواب في مصورات صفاء ذياب جرداء ، عارية ، منعزلة عن ريح الياسمين كما في أغنية فيروز. وأبوابه مغلقة، تعني بأنها حزينة، كسيرة ، تنتظر عودة من هي بانتظاره.
مقابض الأبواب مدورة بشكلها التقليدي ، وأخرى مستطيلة . تآكل الخشب قليلاً تحت حركة تدويرها عند حركة الفتح أو الإغلاق يلف الأبواب ، يعني بأنها مغلقة بالنهار ، أو منتصف النهار ، وحتماً الاجتماعي / والأمني سبب مباشر في أحكام العزلة على الأسواق . الباب مدخل الدكان أو المحل ، ومثل هذا الباب له أهمية استثنائية وخاصة ، انه يفضي للداخل ، باب رئيس مختلف عن الباب الداخلي المفضي لمخزن الدكان …ذاكرته محدودة ، مرتبطة بصاحب الدكان والعمال الذين معه . مثل هذه الأبواب ذات الأهمية المعلن عنها من خلال تحكيمها ، تاريخ من حياة السوق المشتركة بين العديد من الناس في المكان ذاته … وكما قال فليمون وهبة …آه …الأبواب .
تنوع الإقفال للمحلات ، تباين بالثروة المخزونة بالداخل ، وكلما ازداد التحكيم للباب ، كلما شفا عن غزارة الموجود ، ومع التباين الحاصل في الحالتين ، تبقى الملكية مهما تضاءلت خاصية للكائن ، وهي وسيلة مساعدة للإبقاء على العلاقات مع الآخرين .
ينطوي حضور الكاميرا مراراً لتسجيل واجهات الدكاكين على خطاب ثقافي واجتماعي مختلف عن أبواب البيوت ـ التي سنتحدث عنها ـ حضور الكاميرا اعتراف قوي وانتباه لأهمية هذه الكينونة المهمة المختزلة مساحتها والمتمركزة على قلب الباب ، القفل أو الذراع الحديدي هو الجزء الفاعل في المكان ، وتكرر صور ، شهادة ميلاد جديدة ، بمعنى الإعلان عن التواجد ، ودعوة الكل لمعاينته والتفرس بملامح الممكن كشف دقائقها إذا عرضت على شاشة بلازما ، حينها ستتضح حضورات التاريخ وسردياته ، والاهم أيضا انكشاف الماضي الذي لا يكف عن الاستمرار والفعل ، لأنه غير راهن بالاستكانة ، انه نوع الجدل الخفي الكامن تحت قشرة الواقع . هذا هو الموضوعي اللامرئي .
الفوتغراف مباشر ، لكنه متلصص على الماوراء ، وإذا استطاعت الكاميرا على ذلك فأنها قد حققت نجاحاً بالحصول على كشوف غاية بالأهمية والبلاغة . لان الماضي أكثر تعبيراً عن ذاكرة المكان ومروياته .
ذاكرة الخراب والتآكل المتبدّي على البعض الحساس . والمعطل ، تقريباً . لان التبادل المتوقف ، في منتصف النهار ، يعني بقاء الحياة مرتبكة وقلقة بعد حصول أحداث التغيير .
التصوير الفوتغرافي وسيلة للتعامل مع أشياء يعرفها الجميع ، لكنهم لا ينتبهون إليها ، صوري مقصود منها أن تمثل شيئاً ما ، أنت لا تراه كما قال ايميت غوين . والفوتغراف هو اللغة المكتفية بذاتها وقادرة على بث رسالة مفهومة في العالم كله . هذا ما هو ممكن بالنسبة للأنواع الأدبية ، لكنها حتى تكون مقبولة ومفهومة ان تتوفر على ترجمة الى كل لغات العالم ، حتى يمكن أن تقرأ من قبل الجميع ، بينما الفوتغراف نص / رسالة مباشر بحركته نحو الإنسان ، يقرأ الصورة ويستلم منها ما تريد هي بثه وإيصاله . الصورة وثيقة إبلاغ الحقيقة ، ويستمع لها العالم كله من غير شهود . وكما قال المصور « غاري وينوغراند « أنا أصور كي اكتشف ما سيبدو عليه الشيء وهو مصوّر .وهذا يومئ لرأي نقدي لا يؤكد تطابق الصورة مع الواقع ، بل هي تحمل شيئاً منه وتنتج أشياء ليست فيه .
ما يلفت الانتباه في التجارب العراقية الحديثة ، شيوع التركيز على جزء من المشهد الحياتي ، مما يعني ، بان الواقع لم يعد مهماً في تطابقه مع الصورة . وإلا ماذا يعني التقاط جزء صغير من شيء ، فالاختزال يمنح جمالاً ويعطي بلاغة للصورة كذلك لفت الانتباه الى أهمية هذا الجزء وإشباعه تركيزاً وتبئيراً ، بحيث يتبدّى واضحاً / دقيقاً ، تطفح عليه دقائق الموجودات / الندوب مثلاً / هذا على سبيل المثال في صور صفاء ذياب للكف ولقطات الفنان المرحوم علي طالب / للعربات وأجزاء منها ومن جسد الكائن وأظن بان الفنان الكردي هو الأسبق في هذه التجارب وتميزت بذكاء وانتباه لحقائق انطولوجية أكثر منها مميزات لليومي والمعاش عبر تفاصيله . قدمت صورة الفنان .
لقطة ركزت على الكتفين واليدين نزولاً ، وهيمنت الصورة على الساعة بدلالتها الحياتية بالنسبة للرجل العجوز وكشفت اعتزازا ته بمفتاح صغير التف حول يده مع ساعته مع دبوس له وظيفة سحرية اتخذ مكاناً وسطاً في المسبحة السوداء المتماهية رمزياً مع خريف العمر بالنسبة للرجل العجوز . أما الصورة الخاصة بالفنان صفاء ذياب فهي ذات قيم جمالية مثيرة للاندهاش ومولدة للإعجاب وقد تنوعت في التركيز على ما هو بؤرة في الصورة ، ولذا تميزت كلها بما له خاصية ودلالة عابرة لما سبق . قلت سابقاً بان انشغال صفاء ذياب ببؤرة محددة / أو جزء بسيط في مشهد ، هو سعي من اجل اقتراح نسق او نظام يتكون عبر التكرار الخاص بجزئية معينة ، ووجدت في متابعتي لفوتغرافيا صفاء محركات ثقافية وفلسفية كامنة وراء التمركز حول الجزء والتعامل معه بوصفه بؤرة ، تختزل الكل ولا تشوهه ، بل تضفي عليه جمالاً وإثارة . وما يدعم ملاحظتي هذه العلامة مع اليد الرمز والعلاقة والأيقونة معاً وعاشت تنوعاتها الفنية والدلالية منذ عتبة الحضارات الشرقية ، واعني حضارة سومر التي اعتبرت اليد رمزاً للعمل والقوة والعدل والبناء وخلق لها الإله انليل في الديانة السومرية الفأس زميلة اليد وصديقتها الأبدية ولا شيء يمكن حدوثه في الحياة من تطور وتجديد بمعزل عن اليد ودورها ، فهي الكائن وفي أحيان كثيرة مرآة للكائن : نتعرف عليه عبر ابتكارات يده التي هي من أدوات العقل مع العين. واليد هي تحفز الحواس المساندة لابتكارات الحواس وتحفيزها ، وأيضا هي مكتشفة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة