جمال جصاني
من دون أدنى شك لا ينبغي للدولة ان تتحول الى مسرح لتجارب المغامرين والطارئين على النشاط السياسي وخدمة الشأن العام، وإن اتاحت الاقدار مثل هذه الفرص لهم في عدد من البلدان المنحوسة، فان النتائج تكون وخيمة لا على هيكل الدولة ومفاصلها وحسب بل تشمل المجتمع كله بما فيه من بشر وحجر. وهذا ما حصل مع أحد أقدم البلدان وأكثرها تنوعاً وثراءً مادياً ومعنوياً (العراق)،
والذي انتقل بعد اربعة عقود من السلطة المطلقة لشيخ الجرذان الذي انتشل من حفرته الاخيرة؛ الى نسخ اخرى من المتلهفين لاستعراض مواهبهم الخاوية على ما تبقى من (الدولة). لقد برهنت تجربة أكثر من عقد للحكم (الديمقراطي) الجديد،
عن فشل ذريع في التعاطي مع ما يمكن ان نطلق عليه بـ(أم المهمات) أي بناء الدولة. حيث الدائرة المفرغة ذاتها، والهرولات المندفعة صوب الوليمة الازلية، ولم ينضح اناؤهم الا عن اعادة جديدة لتقاسم اسلاب السلطة، من دون التريث قليلاً أمام كل هذا الركام الهائل من العجز والهزائم، التي ولجت الى أطوار أشد فتكاً في الاسابيع الأخيرة.
لقد قدمنا أسوأ ما لدينا من شخصيات وكيانات وغايات، حيث الرايات والبيارغ المنتهية الصلاحية،
والعقائد التي هجرتها سلالات بني آدم منذ قرون، وها نحن سكان هذا الوطن القديم من شتى الازياء والرطانات نتمترس خلف أكثر المخلوقات تخلفاً وهمجية، دفاعاً عما نتوهمه من حقوق مهدورة أو مستردة. ومع مثل هذا الاصرار على السير في دروب الخيبات هذه، سنجد انفسنا قريباً خلف جدران المتاحف الخاصة بالمنقرضات.
إن المهمة الغائبة (بناء الدولة) ما زالت تنتظر مجيء المستلزمات المطلوبة لها؛ وهي الملاكات المؤهلة والمسؤولة والرؤى الواضحة والمتوازنة عن الدولة بمفهومها الحديث،
بوصفها ارقى ما توصل اليه البشر من منظومات قيمية وتقنيات في مجال فك الاشتباك بين البشر وخدمة الشأن العام. لذلك سيكون من العبث انتظار اية تحولات ذات طابع ديمقراطي من مثل هذه المؤسسات التي ازدادت تورماً من خلال عمليات التخصيب الشاذة بين الهياكل القديمة للدولة وملاكاتها من (الفلول) وكوادر العدائيين الجدد.
ان مشهد الانهيار المتعدد الجبهات لما تم ترقيعه من ادارات واجهزة للنظام الجديد مع أول تحدٍ جدي يواجه التجربة السياسية الفتية، يدعونا جميعاً، خاصة من تنطَّعَ لمثل هذه المسؤوليات الجسام؛ لأن يواجهوا حجم الخراب الذي خلفوه، وان يفسحوا المجال لتلاقي الروافد السليمة والملاكات المسلحة بمشروع بناء الدولة الحديثة العابرة لفضلات القوافل القاتلة..