في ديوان “خارج الجوق”
د. سمير الخليل
في مجموعته الشعرية (خارج الجوق) الصادرة عن دار أجل الجديدة- دمشق 2019 يرجعنا الشاعر “أمير الحلاج” إلى فهمه الخاص، وهو فهم يكتنفه الغموض والإبهام، للشعر وكتابة الشعر المعاصر أو المابعد حداثي.
يستحيل أن ينطوي هذا الفهم على تفضيل تقليدي ينبغي على القارئ استيعابه استيعاباً أعمى. ولا تعني عبارة “كتابة الشعر الحديث” سوى أن الشعر ما عاد شيئاً يعرف المرء أنه موجود، أو يعيه بوصفه شكلاً أدبياً تواصلياً، يثري اللُّغة التي كتب بها، وبالوقت نفسه، يعتني بها، ولهذا يمكن المحافظة على الشعر بوصفه جنساً أدبياً في وعي تأريخي ونصوصي وافٍ يحافظ عليه من الإسفاف والتلف، وهو ما يسعى أمير الحلاج إلى تحقيقه لكي يكون للشعر هيبته.
ويُعد تغيير المهمة الراسخة للشعرية نوعاً من الصلة معه لا تقل أهمية عن الدفاع عن تطوره لغة وشكلاً ومحتوى وموقعية. فالشعر لا يكون إلا في حالة تغير وتطور مستمرين، وإن الفوز بقراءة الشعر وفهمه وتذوقه والتأثر بمزاجه هي صياغات يقصد بها جذب الانتباه إلى منتجات العقل البشري وكيف تبرع في رصد خططنا ورسم رغباتنا وتسجيل أحلامنا وصبواتنا.
إن اللجوء إلى الشعر يُعد مشروعاً تداولياً وليس دوغمائياً، وبذا، لا يقصد منه الإبقاء على معايير التأويل القديمة ومناهجه التقليدية، ولا الإبقاء على النتائج النقدية التي تقادمت وانقرضت. وربما نستطيع أن نستدل من ذلك على أن الشعر “الحقيقي” مهما كان شكله أو معماره يتركنا مع استنتاج ثوري مؤداه أن بالإمكان قول أي شيء على الاطلاق، وإن بإمكان أي رأي أو تأويل أن يفهم الشعر ويتعاطف مع صوره المنظومة وجمله وتمثيلاته. وينبع هذا الرأي من حقيقة أن بالإمكان تنفيذ عملية إعادة التقييم الكلي للشعر التي تحذو حذو المشاريع الفلسفية الكبرى التي قلبت التأريخ الميتافيزيقي وقامت بتفكيكه ثم تدميره باسم التراث الميتافيزيقي نفسه بوصفه “الحقيقة الساطعة” التي تغافل عن ملاحظتها كل شخص مجايل لها وأصابه العمى. ولا يمكن أن تكون هذه نتيجة ضعيفة أو هشة ولا تستطيع أن تثبت على أرض الواقع، مثلما سيقال عنها (مع تقديم مسوغات عدة) بل أنها لا تتمخض عن نظرية أدبية بسبب تركيزها التداولي، وينبغي على المقاربة الثقافية الارتباط، ولو على سبيل المقارنة، بالتراث الأدبي، أي بعمل التأريخ الأدبي الفعّال أو بفكرته عن تطور الأشكال الأدبية وتقدم تقاناتها. وبسبب هذه الصلة الأساس ينبغي أن يصبح التأويل، إذا ما أريد له فهم قوته وصلاحيته، مدركاً الطريقة التي يرتبط بها مع نماذج الأدب الرفيعة. والطريقة التي تعمل بها الأفهام (جمع فهم) الموروثة المسبقة في هذا المجال تحديداً.
وعلى الرغم من أن العلاقة بالشعر المعاصر –خاصة- تمثل بحد ذاتها، شرط التواصل القرائي بين الشاعر والقارئ، نجدها لا تعمل -من الناحية المعمارية- بالطريقة التي فهمها بعض الشعراء ومن ضمنهم “أمير الحلاج”. بل أن اللجوء الى الشعر يتطلب إمكان النقد: فهو يتطلب حركة نحو الوعي الذاتي المنهجي للشاعر أي نحو إدراك العلاقة بين ما يقال وما ينبغي له أن يقال.
وبدلاً من أن تأخذ القراءة منحىً آخر، أصبحت تمثل دعوة الى نبذ التعقيد، وترك استعمال الجمل الطلسمية، وإستهجان اللامعنى، ورفض التعالي والهلامية والتذاكي على القارئ، فكل تعال وتعالم وتذاكٍ يعني خسارة أكيدة تأخذ من جرف الشعر والشعرية. ولنقرأ هذه النصوص، علّناً نصل الى تواصل من نوع ما مع الشاعر وشعريته:
((هل هو الإرث الملازم/ كحلقات السلسلة/ تبتدئ المهيمنة المصاغة من تقاطع الأحلام؟/ غارزة في العيون المزروعة في المشهد، إشرئباب الراحلة، والعجلة، والمخترقة الجو/ كلما طمر الشمس/ ما تلده الحوافر والسرفات/ تركه كمحيط الدائرة/ على نقاطه يزدهر المتغير بالمحطات/ والتعرّق ساق للرمل المنبسط على المجامر المتراصفة/ ليتسلى في انتشاره الصبر))(ص19). ((الغبار المخيّم/ فضاءً حانياً بالواخزات/ تحت الفضاء الحاني العاشق للمجرّات/ حيث تزهر ورود الهندسة/ راسمة للنظام خرائط ركل الفعل المترنح/ كلما عركس ممدَّ القوة لأذرعه/ كجدران يتضاءل الفضاء المطوق من إنتصابها/ سجيناً في دورق التجارب، يجرني جوى التقاعس الجاذب السياط/ ما دامت سطوته تسكب ما يورق واقع الأمر المركز/ سوراً مسنوداً بسور كبح إشرئباب الرغبة تستكشف/ أن ثمة نسمة بارقة)).(ص31). لم أفهم ما (العرْكس) ولماذا (ممدّ) وليس يمدّ، وربما هناك خطأ طباعي. وهكذا تتقدم القصائد نحو مصائرها المجهولة، باحثة عن قارئ شفيع يترحم عليها حينما يأتي يوم الحساب العسير (؟!). ولا أكتم القارئ سرّاً أني تحيرت في فهم المقطوعتين وصرت أشك بذكائي النقدي، إذ لعلّ للشاعر أسبابه الخاصة كما قلنا.
ليس بمقدور النقد الثقافي أو أية منهجية نقدية أخرى معارضة التقانات اللغوية والأشكال المتكبرة طالما أن النص لا يفهم إلا عبر إنتاج تأويل ما. وإذا ظهر أن الإشتغال النقدي لأشكال معينة من المعارف الأدبية غير موفق في مقارباته فسيكون هذا النقد هو العقل القاصر بعينه.
وعلى الرغم من إمكان ارتباط القراءة النقدية، ارتباطاً وثيقاً، بالمعرفة المنهجية، أي، بالأبحاث والدراسات الجارية فعلاً، نجد أن عموميتها متميزة جداً، إذ بإمكان النقدية توضيح نوع الشروط المتضمنة في النص المنقود، وفي إمكانية تواصله مع القراء، غير أنها لا تستطيع الذهاب أبعد من ذلك الى حد ترسيخ قناعات اجتماعية أو سياسية معيّنة وعدها حقائق أو معايير ضرورية.
عموماً، لا تستطيع النظرية النقدية تزويد السياقات الأدبية بشروط الملاءمة المادية، وليست هي علماً دقيقاً أمبريقياً (تجريبياً) محدداً، كما أنها لا تستطيع الإرتباط، على نحو وثيق، بالتطبيق بحيث تتمكن من تشريع قانون للمعايير الكتابية الإجرائية، أو “مذهباً” أو “مدرسة” أو “منهجاً” قاراً وثابتاً. ومع ذلك، فإنها تتمتع بصلة وثيقة بالتطبيق لأنها معينة بمسرد خاص بشروط الملاءمة، وبضمنها تلك التي ناقشتها الدوائر الفكرية الكبرى، وأقصد بها نظام الأنظمة المعرفية التي تعاهد على وضعها أساطين الفكر العربي -الإسلامي: ابن سينا، الكندي، الفارابي، ابن رشد…الخ، في مسائلها المتعلقة بالكيفية التي يقال فيها أن لدينا معرفة مقنعة بموثوقيتها، عقلية أو لا هويته، وبالكيفية التي يقال فيها عن الجمل اللغوية بأنها صحيحة ومفيدة، وبالكيفية التي يقال فيها عن الملفوظات بأنها ذات معنى وليست مجرد غموض محض، ولعل عنوان المجموعة (خارج الجوق) يحيل إلى تفرد أمير الحلاج وتمرده على سياقات الشعر والشعراء، فهو لا يرضى أن يكون مع الجوق في أفكاره ولغته وجمله الشعرية، وطاقاته الإبداعية بل لا يرضى أن ينتمي لما يحيط به من جوق رغبة من الشاعر في خلق حالة من التفرد وعدم النمطية وتلك رغبته الواضحة بل العنوان واضح الدلالة والتأويل.
يبقى لأمير الحلاج تجريبه الخاص وقدراته الفذة على التعامل مع اللُّغة والجمل الشعرية ولعلّه يخاطب جيل النقاد القادمين من المستقبل وإنيّ عرضت وجهة نظري وفهمي بحدود ثقافتي النقدية وتذوقي للنص الأدبي أتمنى له مستقبلا شعريا زاهراً.