وهذه كلمتنا

وحيد الدين بهاء الدين

لئن سلف أن سلطتُ بعض الأضواء الهادئة على موهبة منور الملا حسون الأدبية فقلت :
ما يحف بها ليستدرجها لاقتحام حصن المجهول واستنكاه المستور؛ وإن شئت فقل: يدعو الى ما لا بدّ من الإذعان له من غير إرادة منها أو سابقة لها.
إنما هي وما برحتْ تلتزم بمذهبها الشعري وتطوّر رؤيتها المستقلة وإن تغايرت دونها الأحداث وتطامنتْ في جُلٍّ من الجوانب أو بعضها؛ وأمامي الآن ديوانها الجديد « طلاسم العطش».
في لحظة الأسى
وانطفاءِ المواسم
وضياع السنين
في واحة الصمت
أسأل عن زمني ..
وجمرُ الكلمات
لا يخبو في عمقي …
هكذا ..
وتقول أيضا
بأناشيد الحزن !!
تسألني
وهي توقظ ذاكرة الأيام !
وتكشف أسرارها.. لحظة الألم المعتصر ..
تسألني:
مَنْ عرّى زمني؟
وكيف توارت نداءاتي؟
مَنْ غَيّر سِفْرَ أزمنتي؟
مَنْ زرع الليل .. في زَهو نهاراتي ؟
مَنْ كَفّنَ
بالصمت جراحاتي؟
بحكم تراكم الأفكار وإنثيال المعاني في لحظات التجلّي والتملّي؛ تتأرجح الشاعرة بين الحنين الى الماضي؛ إستنباطاً للحكمة، ومهادنة الحاضر او مسايرة كمتراس لما تباغت به:
وحين أيقظها دفء الذكريات!
همست لي مدينتي:
حفظتُ كلَّ قصائد (فضولى)
وتغنيتُ برباعيات (الخطاط)
واليوم …
أصبحتُ صرخةً ورعدا
في سماء، تبرق سحُبُها أسئلةً
تُمطر غضبا!
من هنا كانت النزعة الذاتية متأصلة في أغوارها حتى باتت مداراً لها حيناً ومساراً آخرعبر الأيام لأن تبيانها في كل حال حتى المآل وارد؛ وذلك في غير قليل من منظوماتها الشعرية وموضوعاتها النثرية؛ إنما الفارق بين ما قالته في ماضٍ من العهد وحاضر منه؛ يتألق في تلك النظرة المتغلغلة والأسلوب الدقيق الرقيق:
رغم هروب الأمس
وتلاشي السنين
طقوسك، القابعة
في أعشاش ذاكرتك التي،
لن تحجبها الحروف والأسماء…
ولأنك احتويتَ تواريخ البقايا
يحاصرك الشوق
إلى ندى فراديسك الصامتة
و أنت تحمل نعشك
تحتضر في حضرة صباحاتها
و دمُك مهدور تحت قدميها ..
هكذا تتضح النزعة الذاتية لدى الشاعرة واقعاً وطابعاً تصريحاً وتلميحاً لا لشيءٍ إلا لتكون سبيلاً سليماً ومَعْبراً طبيعياً الى إعلاء شأن الإنسان؛ فرداً وجماعةً ..
هاهي ذي تنطلق في رحاب « الراحل صوب الخلود»: هذا الذي عرفه الآخرون والكثيرون وأنا منهم؛ إنساناً كلُهُ كياسة وسماحة، ذلك هو سامي توتونجي:
بعد مغيب قرص الشمس،
واقتراب عامٍ جديد!
لوّحتَ بيدك السخية،
لشرفات المدينة!
ورحلتَ صوب الخلود…
وأنت تغرس جراحاتك
في قصائد الزمن،
أودعتَ
مدينتك الحُبلى بأوجاع السنين،
وتركت في ذاكرة الروح
رسالةً: أنا قلبٌ في خارطة الوطن
ومن جانب ثانٍ لا تتردد منور الملا حسون إلا أن تزيّن معرض الفن التشكيلي بلوحة باذخة؛ كثيف نورها؛ خفيف ظلّها؛ لساكنة في ثنايا الروح ولواهبة لمدينتها دفء الوعود ولنابتةٍ في قلعتنا التاريخية الشماء : ميسونة خطيب زادة ؛ هذه التي جمع القدر بيننا يوما :

رحلتِ..
في رَكْبِ الزمان!
وأرسلتِ البهاء حولك ..
فاعتليتِ صهوةَ الضياء
ونثرتِ الذكرى ندية
على أجنحة السنين
لتحُطَّ على شرفات مدينتك
التي , يحاصر الظمأ
جسدَ أحجارها
عودي..وأوقدي شموعَ المواسم
في دروب المدينة
فأنتِ ..أنتِ
في ذاكرة الوطن أمنية…
ثم كان من بواعث هذه النزعة الذاتية الطاغية على الشاعرة ـ كما يظهرـ أن تنجذب تلقائياً الى الأرض التي ترعرعت فيها؛ والى الوطن الذي أعلى قدرها؛ لأنهما ـ بالضرورة ـ حبيبان إليها ..عزيزان عليها :

وقبل أن يذوب الحلم المؤجل
في خارطة الصبر!!
تشابكت في عيون سيد الصبر (النبي دانيال)
أسئلةٌ .. توقظ كل اللغات:
أخاف أن أصحو ذات صباح
ولا أرى عصفوراً على غصن الصفصاف!
أشجارُ القلعة تسألني:
متى تخضرّ جذور الزيتون؟
(كركوك ).. يا قصيدة الزمان
أسالُكِ:
لعلك .. تجيبين
لعلك تجيبين
أخلص الى أن هاتيك النزعات الذاتية والإجتماعية ..الوطنية والقومية ..مستقلةً كانت أم متوحدة ً؛ عند كلّ ذي حصافة وأصالة، من الشعراء والأدباء.. المفكرين والمثقفين، تؤدي في النهاية إلى احتضان النزعة الإنسانية ومعانقة حضارتها؛ لّباً لا قشوراً ..نضارة لا شناعة.. إقبالا لا إدباراً؛ ومن هنا كنت أودّ أن أجد للشاعرة نصاً موثّقاً؛ في هذا اللون الأصيل الجليل في مطاوي « طلاسم العطش «؛ ولعلها ثغرة يمكن أن تغطيها في آتٍ من الزمن بعطائها وإيلائها ما يستحق؛ لا لشيء إلا لأن مثل هذه الحالة تقتضي وتقتضي ذلك كما أرى.
بقي شيء وهو أن فن الوصف من أصعب أنواع الشعر كما تبدّى لي وتأكد لديّ عبر إطلالاتي الثقافية المتواصلة؛ مع هذا كله فقد تغنّت شاعرتنا بالطبيعة على قدر ما سمحت به ملكتها من حيث التجربة الشعورية التي مرتْ بها؛ والقيم الفكرية التي ساندتْها؛ مشاركة منها في بعض ٍ من مباهج هذه الطبيعة وتقلّباتها ثم مُصْغيةً الى نداءاتها واماراتها؛ كذلك مشخصةً إياها بالعاطفة والتأمل والتداعي:
سنينٌ،
سُيّجتْ بساتيننا الخضراء
بهمسات الضباب الأسود
فوئِدَتْ الآمال النامية
في عيون الحمائم الغافية
في أحضان شُجيراتٍ
جردتها يدُ الخريف
وتستطرد الشاعرة:
هاهي شمسُ الأناشيد تترنم
وتهمس من ربيعنا الآتي:
لكلّ شروق ألف شهيد !!
ولطُهر التراب، ألف شهيد!
هذا ما عمدتُ الى إيراده تعزيزاً وتسديداً من نصٍّ:
ذبحتْ الأيام شمسكِ
أوانَ شروقها
واغتالتْ ..
جدائلَ حُلمك الندي ..
حتى توارتْ ألوانُ فساتينك
وارتحلتْ البلابل…
فتناثرت زقزقاتُ العصافير
في وجع الأيام..

وبعد فان هذه المجموعة الشعرية شكلاً ومضمونا متأثران طوراً بالشعر الحداثوي المعاصر الذي ساد عالم الغرب حتى اخترق حدود الشرق؛ ومحاكيا له طورا آخر كنتيجة طبيعية لما استجابت له الشاعرة منور الملا حسون من طرائق وتيارات؛ فالمفردات ذات الإيحاء والإيماء وهي تكتنف النصوص المختلفة؛ إتباعي بعضها؛ رومانسيّ بعضها الآخر؛ وغيرهما واقعيّ مشوب بالرمزية؛ حسب مقتضى الحال، إنما تُلبسه ذلك الثوب القشيب؛ طريقة التفكير؛ وخصوبة التعبير ناهيك بسمو المعاني وسعة الخيال.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة