حسن خضر
ينشر بالاتفاق مع صحيفة الأيام الفلسطينية.
ظهر في الحقل الثقافي، المحلي، بيانان ينتسبان إلى مؤسستين قائمتين. شاء الثاني أن يكون تعقيباً على الأوّل، وكان الأوّل أثار لغطاً فعاود الكرّة، بصيغة مُنقّحة، لعل فيها ما يبدد صخباً «لا يحتمل».
ولا أجد، في هذا المقام، وصفاً يختزل الأوّل والثاني أكثر دلالة ودقة من تعبيرين بالإنجليزية (minimalist) و(maximalist). للتعبيرين دلالات سياسية وثقافية في آن، وفي رصيديهما نقاش يغطي عقوداً طويلة، ويتجلى في قواميس اللغة في أكثر من تعريف محتمل.
للأوّل في الأدب والفنون دلالة التقشّف، والاكتفاء بأقل قدر من الخطوط، والمفردات، والألوان. أما الثاني فعكسه تماماً. في السياسة، للأوّل دلالة الحد الأدنى، وللثاني دلالة الحد الأقصى.
وعلى سبيل المثال، والتمثيل، لا الحصر: يشبه الأوّل قصيدة الهايكو اليابانية مقارنة بالقصيدة الغنائية، هذا في الأدب والفن. وفي السياسة والفكر: يشبه الأوّل حزب ميرتس الإسرائيلي مقارنة بالليكود.
وعلى خلفية كهذه، وعلى سبيل المثال، والتمثيل، والحصر، يصح الكلام عمّا يسم البيان الأوّل، الذي رد على اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، من اقتصاد لغوي، وسياسة مُتقشّفة. ولا ضرر ولا ضرار. فالبيان عصارة مكثّفة ومركّزة للموقفين الرسميين الفلسطيني والعربي. ولكن في حقيقة كونه «بيان مثقفين» ما فتح، ويفتح، صندوق باندورا العجيب، لا من حيث ضرورة اختلاف لغة «السياسة» عن لغة «الثقافة» وحسب، ولكن من حيث مفارقته المفاجئة لفصل متوّهم بين «السياسي» و»الثقافي»، أيضاً.
فمنذ أوسلو نشأ فصل وهمي، ومُتوّهم، اكتسب قوّة البداهة، بين كينونتين غامضتين هما «السياسي» و»الثقافي»، يمكن لكليهما أن يتجلى في صورة شخص أو موقف، ليصبح «التكتيك» حصّة «السياسي»، و»الثابت» حصّة «الثقافي».
ولم يكن لمحاصصة نفعية كهذه أن تبدو مُقنعة من دون تمويه، وتشويه، الاثنين معاً.
ولنذهب بعيداً لنقترب أكثر. في السابع من شباط (فبراير) 1987، حاول محمود درويش، في المؤتمر التوحيدي لاتحاد الكتاب والصحافيين الفلسطينيين، في الجزائر، تحذير الحاضرين (كان كاتب هذه السطور، والبعض من موقعي «بيان المثقفين» بينهم) من مخاطر الوقوع في ما سماه «ترف التنافر الشكلي» بين «السياسي» و»الثقافي». قال: «كثيراً ما يتداخل المستويان، ويحتاجان من البارع فينا هامشاً أكثر من مجازي».
واستفاض، يومها، في وصف العلاقة الشائكة بين الجانبين، مُستشهدا بغرامشي لتحليل ما تنطوي عليه علاقة كهذه من تعقيد. لم يفعل ذلك للتدليل على كفاءة الشاعر في قراءة الغيب، بل فعل ما فعل في مؤتمر كان في مجرّد انعقاده ما يعني إحباط مؤامرة حاكها نظام آل الأسد، لشق منظمة التحرير، والاستيلاء عليها. وفي مؤتمر الجزائر، عاد الخارجون على المنظمة، والشرعية، إلى صفوفها، على وقع مدافع الميليشيات الطائفية في لبنان، التي نكّلت بالفلسطينيين في مخيماتهم، بأوامر مباشرة من حكّام دمشق. بمعنى آخر، كان جدل «السياسي» و»الثقافي» حاضراً في منعطفات مختلفة. ولا يحق لأحد أن يقول لم أعرف، ولم أسمع. وبمعنى أكثر مباشرة: كان الفصل الوهمي بين الاثنين، بعد أوسلو، محاولة نفعية لإعادة إنتاج الحقل الثقافي بما يضمن بقاء وتأبيد علاقات القوّة، والمحاصصة، في ظروف جديدة، ضاق فيها الهامش، الذي تكلّم عنه محمود درويش، ليصبح مجازياً فقط، وفي حالات كثيرة مجرّد ضوضاء لغوية.
وبهذا نعود إلى ما ابتعدنا عنه لنقترب أكثر: في «بيان المثقفين» بوصفه عصارة مركّزة، ومكثفة، هي أقرب إلى قصيدة هايكو يابانية بلغة السياسة، اختفى حتى الهامش المجازي بين «السياسي» و»الثقافي»، أي بين «التكتيكي» و»الثابت»، وخرجت حتى الضوضاء اللغوية (سمها ما شئت) من المتن، بوعي مُسبق، والدليل عودتها، بوعي مُسبق، أيضاً، في الصيغة المُنقّحة، بعدما قوبلت الصيغة الأصلية بموجة غاضبة احتجاجاً على ما صمتت عنه.
وبهذا المعنى، أصاب مريد البرغوثي، وهو ابن لامع من أبناء الثقافة والوطنية الفلسطينية، عندما وصف النص بالساكت. وإذا وضعنا جانباً حقائق من نوع هبوط المكانة التقليدية للمثقفين في كل مكان من عالم اليوم، وكفاءة مواقع التواصل الاجتماعي في زحزحة المكانة التقليدية للبيانات، يصعب على «الثقافي» حتى إذا أُريد له أن يكون داعماً «للسياسي»، في الموقف من القدس، أن يقتصد ويتقشّف. فالقدس احتلت، في خطاب الثقافة والوطنية الفلسطينية، مكان ومكانة لحظة التلاقي بين الدنيوي والسماوي في تاريخ فلسطين، والعالم. الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين على القدس ليس سباقاً على الأبد، لا أحد يعرف ما الأبد، والأبد لا ينتظر أحداً، ولا يتعاطف مع أحد، بل هو صراع بين معاني الحصرية الإسرائيلية، والتعددية الفلسطينية: بين رواية تسعى لاختزال تاريخ جماعة في مدينة، وتعلّق الاثنين على رمح الأبد، باسم ثأر لا ينام، ورواية تسعى لترتقي المدينة، بقدر ما اختزلت من تاريخ الدنيوي والسماوي في الإنسان، سارية السلام.
كلما اقترب الفلسطينيون من خصوصية بلاد كفلسطين، ومدينة كالقدس، أصبحت هويتهم أغنى، وفرصهم في الفوز أكبر. وفي سياق كهذا، فقط، تتجلى دلالة «السياسي» و»الثقافي» معاً، ومنه، وبه، وعليه، تُصاغ العلاقة بين الاثنين، ويتجلى فيها احتمال الفصل والوصل.
وبهذا نصل إلى البيان الثاني. وإذا وضعنا اللغة الإشكالية والشكلية جانباً، يحق لكتّاب فلسطينيين انتقاد الثورات العربية، كأفراد، ولكن نشر بيان يصفها «بالربيع الأسود» باسم نقابة مهنية، تدعي تمثيلهم، يصادر حقوق ومواقف الكثيرين. في مؤتمر الجزائر نفسه يُعرّف محمود درويش ما يجعلنا فلسطينيين قائلاً: «إن ما يجعلنا فلسطينيين هو هذا السر البسيط، أن نُصاب بجنون الحرّية».
ومن حسن الحظ أننا لم نبرأ من جنون الحرية بعد.
لم نبرأ من جنون الحرية بعد !
التعليقات مغلقة