د. عبد السلام فاروق
عبد السلام فاروق السيرة الذاتية عمل ينتمي لدائرة الأدب، رغم كونه تأريخاً للذات. وعندما تكون تلك السيرة هى سيرة حاكم، يغدو الكتاب سرداً لسيرة وطن لا مجرد سيرة اجتماعية.
هذا ما يفسر اهتمام القراء الكبير بكتابَى (سرد الذات)، و(حديث الذاكرة) للدكتور سلطان القاسمى . فى «سرد الذات» لغة بسيطة، وأسلوب سهل، وحكايات من فترة الصبا والشباب قبل تسلم المنصب الرسمى، وقبل إعلان الاتحاد الإماراتى فى مطلع السبعينات .. أى أن الإنجليز كانوا لا يزالون هناك، والنفط ما يزال محفوظاً فى باطن الأرض لم يرى النور بعد، كأنه كان ينتظر جلاء المحتل الجشع.
ورغم صفحاته التى زادت على 400 صفحة مزودة بالصور، أكد د/(سلطان القاسمى) أن 30% من الكتاب تم حذفه قبل الطباعة منعاً لإثارة ضغائن وأحقاد ومشكلات . ومن خلال وصف الأحداث التى مرت به فى طفولته وصباه وشبابه تلمس الاختلاف الكبير بين الإمارات اليوم والأمس. وتستشعر تأثير وجود المحتل فى إيقاف مسيرة الحياة الطبيعية لأي بلد، وفى الكتاب كلام عن دول أخرى عاش بها د/(سلطان) فى مراحل حياته الأولى مثل الكويت والبحرين وإيران والسعودية ومصر وقطر والهند. هذا ما تقرؤه فى ثنايا السطور، أما الأحداث فهى تأخذك ببساطتها فى عالم الحكاية بلا تكلف أو تعقيد. ما يعنى أن تلك السرديات تنتمي جميعها إلى عالم الأدب، لأن عنصر الحكاية هو العنصر السائد. فإذا شئت البحث عن التاريخ بها وجدته ذائباً ممتزجاً بنسيج القصة.
معنى هذا أن كتاب (سرد الذات) يمثل ذروة تلك الثنائية بين الأدب والتاريخ فى حياة د/(سلطان القاسمى) . وإذا كان «حصن الشارقة» قد ضم طائفة منوعة من الوثائق والآثار التى تحكى تاريخ الشارقة، فإن كتابَى (سرد الذات) و(حديث الذاكرة) هما لاشك جزء من هذا التاريخ، ليس فقط لأنهما يحويان وصفاً دقيقاً لأحداث مرت بالإمارات من منظور أحد حكامها، لكن لأنهما يحويان أدباً . وتاريخ الأدب قد يراه البعض مقدَّماً على التاريخ السياسي.
كتاب (حديث الذاكرة) بأجزائه الثلاث يتناول أحداث ما بعد الاتحاد، وتسلم مقاليد الحكم فى الإمارة، وهو يختلف كثيراً عن كتاب (سرد الذات)، إذ تستشعر أن للتأريخ الرسمى حضور أقوى من الحضور الروائى .
رسم التاريخ بطريقة أدبية
أدباء كثيرون استهواهم التاريخ بسحره وغوامضه ودهاليزه التى تبدو كالمتاهة، فانجذبوا لهذا الحقل المغناطيسي فى محاولة منهم لكشف الأسرار أو تفنيد الأباطيل أو فض الغوامض أو تفسير المسكوت عنه. فلماذا اختار الأدباء التاريخ مادةً لهم؟ وهل معالجة التاريخ بطريقة أدبية تخرجه من دائرة العلم إلى دائرة الفن؟
التاريخ مادة شائكة من مواد العلم، وله منهجيات وطرق بحث مدروسة حرصاً على المصداقية والشفافية والدقة وأمانة النقل والحياد، وهي أمور تتطلب من المؤرخ توافر مواصفات ضرورية أهمها قوة الذاكرة وسعة الإدراك وعدم التعصب أو الانحياز. كما تتطلب من الباحث التاريخى -وهو يختلف عن المؤرخ-منهجاً بحثياً سليماً، وتوثيقاً دقيقاً، مع قدرة استثنائية على تمييز صحة الحدث التاريخى من مقارنة المصادر وإدراك المتطابق والمتناقض. فهو مثل وكيل نيابة أمامه عدد من المتهمين، وهؤلاء المتهمين هم « كتب التاريخ».
الأديب يختلف عن كل هذا، فهو ليس مؤرخاً. إنه يتجاوز مرحلة الباحث إلى مرحلة أعلى منه هى مرحلة الناقد. وبمجرد أن يتبنى كاتب التاريخ وجهة نظر خاصة يتحول إلى كاتب مغرِض ويتلقى من النقاد اتهاماً مباشراً بالانحياز وربما بتزييف التاريخ. هذا ما أقام الدنيا ولم يقعدها عندما كتب طه حسين كتابه (فى الشعر الجاهلى)، لأنه وصف التاريخ من زاويته الخاصة ولم يكتفى بمجرد سرد الحدث أو التعليق عليه.
لكن الأدباء من كُتّاب التاريخ لا يمكن وضعهم فى سلة واحدة. فمنهم من يتناول التاريخ بطريقة سردية، لكنه يستخدم الأدب فقط لتيسير المادة وإعطائها نكهة محببة، والأديب له دور هنا فى إسالة المادة التاريخية الصلبة وتليينها لتصير طيّعة فى يد المتلقى . ومن هؤلاء الأدباء (جورجى زيدان) فى التاريخ الإسلامى، و(أحمد أمين) فى السيرة، و(عباس محمود العقاد) فى العبقريات.
أدباء آخرون هم روائيون فى الأصل، حاولوا مزج الخيال بالتاريخ ليربطوا الأحداث بعضها ببعض ويصوغوا لنا رواية تاريخية مكتملة الأركان فنياً وتراثياً. وظل العيب اللصيق بها أنَّ فيها من الخيال أكثر مما فيها من الحقائق الدامغة. وهؤلاء هم من نقلت عنهم السينما أفلامها التاريخية. ولعل من أشهر الروائيين الذين كتبوا روايات تاريخية (على أحمد باكثير) بروايته الشهيرة «واإسلاماه» التى تحولت إلى فيلم سينمائى ومسلسل تليفزيونى، وله روايات ومسرحيات تاريخية كثيرة أخرى. ومنهم أيضاً (نجيب محفوظ) فى رائعته الشهيرة «كفاح طيبة « .
صنف ثالث من أدباء التاريخ تستهويهم لقطات تاريخية محددة، فيحاولون إبرازها للتذكرة بها. وهى كتابة لا تخلو من الغرض الخاص والمغزى المقصود. وفى العادة يكون الغرض تربوياً يهدف فيه الأديب إلى تقديم فناً قِيَمياً أخلاقياً. ومن هؤلاء (عبد الحميد جودة السحار) فى روايات السيرة، ود/(سلطان القاسمى) فى المسرح التاريخى .
التاريخ لا يستغنى عن الأدب، فالعلم يحتاج لعرضه بطريقة فنية تجتذب القراء. وربما ندرك قيمة التناول الأدبى للتاريخ عندما نقارن بين كتاب (سيرة ابن هشام) وبين كل الكتب التى جاءت بعده من كتب السيرة. هنا ندرك أن هناك كتباً مرجعية يقرأها الخاصة والمثقفون، وكتباً أخرى يستطيع عموم الناس قراءتها بسهولة ويسر.
تداخل أم توازِى أم تضاد؟
فى حين يبحث التاريخ عن الحقائق، ويوثق الأحداث، ويصف الوقائع بجمود وحياد. فإن الأدب يسعى لفهم ما وراء الحقائق، ويمتطى الخيال، ويصف الواقع وصفاً انطباعياً لا حياد فيه .. فهل الأدب هو نقيض التاريخ؟
هناك ما يدعم هذا الزعم بشدة .. فالتاريخ علم، والأدب فن. والتاريخ ثابت، والأدب دائم التغير والتحول. التاريخ جامد صلب جاف، والأدب مرن طيِّع كالماء. التاريخ حقائق ووثائق ومستندات، والأدب خيالات ورؤى وتجليات. التاريخ مصدره الذاكرة، والأدب مصدره القلب والعاطفة. ما يعنى أننا أمام ضدين لا يلتقيان. وأن سهم الأدب يسر عكس اتجاه التاريخ.
لكن التاريخ نفسه يثبت أن اتجاه الأدب هو نفسه اتجاه التاريخ. وأن الأدب مؤشر حسّاس جداً لحركة الحضارات. وأن الفن هو الانعكاس الحقيقي لازدهار واضمحلال الدول فى مسارها التاريخى . ما يعنى أن السهم يسرى فى اتجاه واحد، وأن مسار الأدب والتاريخ أقرب إلى التوازى .
غير أن المشترَكات التى تجمع بين الأدب والتاريخ تجعل من توصيف العلاقة بينهما أمراً محيراً. فكلاهما نابع من مصدر واحد وهو الحدث أو الخبر، وهما يستقيان مادتهما من الواقع المعاش وحركة الحياة اليومية. وكلاهما له هدف تنويري واحد هو استبصار القيمة المجردة من خلال سرد الصراع الإنسانى . وكلاهما يشترك فى عنصر الحكاية والسرد القصصى . فإذا كانا يشتركان فى المصدر والمغزى وطريقة التناول، فماذا بقى بينهما من التناقض ؟!