تأمل أؤمن بالحرف

ساليماتا ممدو جبريل با
كنتُ كمن يرقد لآلاف السنين دون أن يوقظه أحد، يحيط به الصمت، ولا شيء يشير إلى أن ثمة حياة في داخله. كنتُ أعيش في الظل، في عالم خافت الملامح، لا أرى منه سوى ما يسمح لي به إدراكي المحدود. لم يكن ذلك ظلمًا متعمدًا، بل كان جهلاً غير واعٍ. كنتُ أظن أن هذا هو شكل الحياة الطبيعي، أن الإنسان يكبر ويمضي في طريقه دون أن يطرح الأسئلة، دون أن يتساءل عن المعنى، دون أن يلتفت إلى ذاته ككيان منفصل يستحق الفهم.
ثم حدث ذلك الاكتشاف البسيط والعميق في آن واحد: القراءة.
لم يكن الأمر مخططًا له، ولم يكن جزءًا من مشروع ذاتي طموح. كان لقاءً عابرًا مع الكلمات، لكنه ترك أثرًا لا يُمحى. وجدتني أقلب صفحات كتاب، ولم أكن أعلم حينها أني كنت أقلب صفحات في روحي، أفتح نوافذ كانت مغلقة بإحكام، وأسمح للنور بأن يتسلل، بهدوء أولًا، ثم بقوة جارفة لا يمكن مقاومتها. أدركت أني كنت كائنًا ناقصًا يبحث عن الامتلاء، وأن القراءة لم تكن مجرد تسلية، بل كانت إعادة بناء لهويتي، كانت تفتح لي أبوابًا لم أكن أعلم حتى بوجودها.
القراءة: رحلات بلا تذكرة
جعلتني القراءة أدرك أني لست شخصًا شاملاً، إنما ناقصًا يكملني الآخر وأكمله. لم تعد الحدود الجغرافية تعني لي الكثير، فكل كتاب كان بوابة لعالم جديد. لم أعد بحاجة إلى المال لأحجز تذكرة سفر؛ كان يكفي أن أشغل خيالي وأستقل أول طائرة ورقية إلى موسكو، دنفر، أو ماليبو. كنت أتجول في شوارع لم تطأها قدماي، أسمع لغات لم أتعلمها، وأشعر بحرارة الشمس فوق روما ورطوبة أمسيات باريس، دون أن أغادر مكاني.
لكن الأهم من ذلك، أن القراءة علمتني أن الحقيقة نسبية، وأن البشر ليسوا مجرد أبيض وأسود، بل هم طيف من الألوان المعقدة، كل منهم يحمل قصته، جروحه، تناقضاته، وأحلامه. لم أعد أرى الناس ككيانات منفصلة، بل كحكايات غير مكتملة، كصفحات لم تُكتب بعد. أدركت أن الاختلاف ليس عيبًا، بل ضرورة. المشكلة لم تكن في الآخر، ولا في نفسي، بل في زاوية الرؤية التي نتخذها.
مكسيم غوركي: الدرس الذي لن يُنسى
من بين الكتب التي عبرت حياتي، وقفت “الأم” لمكسيم غوركي كعلامة فارقة، كنص لم يكن مجرد قصة بل درسًا في الإنسانية. هذه الرواية غيرت نظرتي للبشرية جمعاء، جعلتني أكثر تسامحًا، أكثر تفهمًا، ليس فقط للآخرين، بل لنفسي أيضًا. أدركت أن الأنانية، رغم أنها غريزة متأصلة، ليست إلا طريقًا سريعًا نحو الدمار. وأن التضحية، رغم ألمها، قد تكون السبيل الوحيد للارتقاء. كانت الرواية درسًا قاسيًا، لكنها كانت ضرورية، كصفعة توقظك من غفلتك، تجعلك تعيد تقييم كل شيء كنت تعتقد أنك تفهمه عن الحياة.
لم يكن غوركي مجرد كاتب، بل كان مرشدًا غير مرئي، يأخذ بيدي عبر كلماته، ويشير إلى أشياء لم أكن أراها من قبل. جعلني أدرك أن الأدب ليس فقط انعكاسًا للعالم، بل هو عالم قائم بذاته، عالم يُعيد تشكيل القارئ كما يُعاد تشكيل الكلمات على الصفحة.
الكتابة: حين يصبح القارئ خالقًا
بدأت أكتب قبل أن أقرأ فعليًا. كانت كتاباتي مجرد خربشات، محاولات عشوائية لخلق شيء لم أفهم كنهه بعد. كنت أظن أن الكتابة هي مجرد لعبة تركيب، تجمع الكلمات معًا بطريقة منطقية، وتحصل على نص. لكن القراءة غيرت كل ذلك.
حين بدأت أقرأ، بدأت أتعجب من عقل الكاتب. كيف استطاع أن يخلق شخصيات من العدم، ثم يمنحها أرواحًا وأفكارًا وأصواتًا مستقلة؟ كيف استطاع أن يبني عالمًا متكاملاً دون أن يفقد خيطه الأساس؟ كيف استطاع أن يجعل الحكاية تتدفق دون أن تتكسر؟ حينها، أدركت أن الكتابة ليست مجرد تجميع كلمات، بل هي أشبه بخلق حياة جديدة، بصياغة عالم موازٍ ينبض بالروح، حتى وإن كان مصنوعًا من الحبر والورق.
الكاتب والقارئ: علاقة مستحيلة
مع كل كتاب قرأته، أدركت أن العلاقة بين الكاتب والقارئ هي علاقة متجددة، لكنها تظلّ من طرف واحد. القارئ يغرق في الكلمات، يعيد تشكيلها في ذهنه، يصنع منها عالمًا يخصه، لكنه لا يستطيع الوصول إلى الكاتب حقًا. الكاتب، مهما أفصح، يظل مختبئًا، يترك أجزاء منه في النص لكنه لا يسلم نفسه بالكامل. هذا التباعد، هذه المسافة الغامضة، هي ما تجعل القراءة تجربة سحرية. أنت تظن أنك تفهم الكاتب، لكنك في الحقيقة تفهم نفسك عبر كلماته.
الحرف: المعجزة التي أنقذتني
كل كتاب قرأته كان مرآة تعكس لي جزءًا من ذاتي، كل قصة دخلتُ عالمها تركت في داخلي أثرًا، كل فكرة سمحت لها بأن تتسلل إلى عقلي غيرت شيئًا بداخلي. لم أعد كما كنت، ولن أكون يومًا كما كنت.
لهذا، أؤمن بالحرف. لأنه لم يكن يومًا مجرد حبر على ورق، بل كان حياة تنبض، وعالمًا يمتد، وشعلة أضاءت لي الطريق حين كنت غارقة في الظلام. سأظل أقرأ، ليس فقط بحثًا عن المعرفة، بل لأنني أجد في الحروف معنى الحياة ذاتها، ولأنني كلما قرأتُ أكثر، شعرتُ أنني أقترب خطوة أخرى من ذاتي.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة