في مقاله الأخير قبل وفاته تحت عنوان(في مفهوم التاريخ) الذي كتبه فالتر بنيامين “الفيلسوف والناقد الأدبي الألماني اليهودي (1892-1940) “حيث استعان بإحدى لوحات (بول كليه) والتي تسمى ملائكة نوفوس. (يظهر الملاك في اللوحة وهو على وشك أن يبتعد عن مشهد كان مستغرقاً في تأمله، عيناه شاخصتان، وفمه مفتوح، وجناحاه مبسوطان، وقد أعطى وجهه للماضي، حيث سلسلة من الأحداث تظهر له، مركزاً على كارثة بعينها تتراكم دماراً فوق دمار ويتطاير الحطام ليتراكم أمام قدميه.”ويضيف: يرغب الملاك في البقاء وإيقاظ الموتى وإعادة بناء ما تم تحطيمه، لكن عاصفة تهب من الفردوس، وتشتبك بجناحيه بعنف بحيث لا يعود بوسعه طيهما. وتقذفه العاصفة نحو المستقبل الذي أدار له ظهره، بينما يتعالى الحطام أمامه ليبلغ السماء.”
في المقال يطرح بنيامين سؤالا حول مع من يتعاطف المؤرخ التاريخي. فكان جواب بنيامين ( لا يمكن انكاره مع الفائز. المسيطرون هم ورثة كل أولئك الذين فازوا ذات مرة. إن التعاطف مع الفائز مفيد دائمًا للمسيطرين في كل لحظة. إن كل من حقق النصر حتى يومنا هذا، يسير في موكب النصر الذي يمر فيه المسيطرون اليوم فوق أولئك الذين يرقدون على الأرض اليوم. وكما جرت العادة، في موكب النصر يحملون الغنائم معهم. تم تصنيفها كممتلكات ثقافية. إنهم يدينون بوجودهم ليس فقط لجهود العباقرة العظماء الذين خلقوهم، ولكن أيضًا للعبودية المجهولة لمعاصريهم. ولا توجد وثيقة ثقافية أبدا دون أن تكون في الوقت نفسه وثيقة همجية). فإن المعنى لعبارة (التاريخ يكتبه المنتصرون) يمثل انتصار الطبقة الحاكمة وتوثيقها للتاريخ والماضي حسب سرديّتها التي تمجّد صورتها، لكنّ جلّ ما تصل إليه هذه السلطة الجديدة هو نتاج لهمجية سابقة لا يمكن محو آثارها من خلال النقاط الاتية:
1. تمنح للكتابة دلالة مجازية ضمن مفهوم ان كتابة التاريخ هي توجيه لمساره. ولإيقاف هذا المسار، يتعين ان يكون التاريخ عند بنيامين شيئا آخر غير الكتابة حيث تحمل الفكرة التي مفادها أن الانتصار التاريخي يكون مرفقا بالتحكم في عملية التوثيق التي تساهم في ترسيخ الانتصار، فالغاية من كتابة وتوثيق التاريخ تحديد مسار كتابته ضمن مفهوم الانتصار الذي يخدم غايات محددة يمليها المنتصرون.
2.تمثل كتابة التاريخ في امتلاك الحق في فرض القانون الخاص للمنتصر، مثل تأليف الكتب المدرسية التي تمجد الانتصار، علما أنه ليس هناك امتياز للتوثيق لأنه في جميع الاحوال هو (ميراث ثقافي) ولكنه مشحونا بالهمجية التي يمليها المنتصر. فجميع ما يكتب من مناهج دراسية او منشورات (كتب او صحف او نشرات) ضمن القانون الخاص الذي يفرضه المنتصر، ذلك ان كتابة التاريخ هي تثبيت لدلالته، فهذا يشكل تاريخ جديد منقطع عن أسبابه وأوضاعه الاخرى المختلفة.
3. نقد بنيامين ايديولوجيا التقدم فالتقدم لا معنى له ان لم يعف المعانين من معاناتهم، ويضع بين ايديهم سعادة حرمتهم منها أزمنة ما قبل التقدم. كأن في عصر التنوير المأخوذ بفكرة التقدم كارثة غير مسبوقة، قبل ان يكون فيه (أنسان كلي) لأن الصناعة توعد الانسان بالفردوس وتأخذ بيده الى عالم آخر، فالتقدم الذي قاد ترويض الطبيعة الى العلم، والانتاج والعمل متمسكا بمقولات السعادة الانسانية هو الذي ينظم التشاؤم الموروث ومآسي المغلوبين وعبودية جديدة وتوسيع مقابر المغلوبين والى تدهور اخلاقي وسياسي واجتماعي. أراد بنيامين ان يميز بين التقدم العلمي والصناعي والتقدم الانساني مؤمنا أن على الاخير أن ينطوي على تقدم اخلاقي وسياسي وجمالي واجتماعي لا يختزل الى العلم والتقنية التي تقود الى تغيرات غير متجانسة.
5. يملي الاستذكار على المغلوب الا ينسى اوجاع مغلوب سابق والخلاص أو الاستغفار، الذي يعني دفاع الاحياء عن المغلوبين الذين فاتهم الانتصار. إن ذاكرة الماضي شرط الكفاح من اجل المستقبل، وهذه الذاكرة لا علاقة لها بمتاحف المنتصرين، ولا بتلك المكتبات المنظمة التي تعيد خلق صورة الغالب والمغلوب، فهي مختلفة عن غيرها بالشخصيات التي تستشهد بها برسالتها ومآلها، وبذلك الأريج الاخلاقي الذي يبقي الشهداء بمأمن من الاحتكار والمصادرة فضلاً عن الدور المعرفي –الاخلاقي لهم.
6. إن التشديد على الذاكرة الجماعية يهدف الى أمرين أساسيين: مواجهة الذاكرة السلطوية، المسلحة بالهالة المتعالية وتواطؤ المؤرخين، وبذاكرة أخرى ناقصة التكوين ومفتوحة على الاحتمال. إن الاستنجاد بأزمنة غابرة لا يدلل على خصب نظري، بقدر ما يشهد على كآبة محرقة تستطب بالمجاز وجماليات اللغة ويمثل الامر الثاني بمتع المنتصر على السطو على ذاكرة المغلوب، وبيان ان الغالب الراهن أسهم في اغتيال اجداد المغلوبين في كل الازمنة.
7. كان بنيامين يكره أنظمة معينة ولم يكن معنيا بكراهية الافراد فيتمسك بنيامين بثنائية ثابتة تختصر جميع العصور اتاحت هذه الثنائية ان تجمع يوليوس قيصر ونابليون وهتلر في زمن ظالم واحد وان يساوي سبارتكوس والطبقة العاملة والمسيح وبين الرأسمالية والشيطان وأن يقرن انتصار المضطهدين بعودة المسيح المحتملة في كل الازمنة. ولعل فكرة المسيح المنتظر أو المهدي المنتظر هي التي حملته على القول بالزمن الراهن أي الزمن المتوقف في الحاضر الذي يجعل الثورة ممكنة في اية لحظة من اللحظات.
8.يرفض بنيامين المؤرخين الذين يفصلون بين الحاضر والماضي، مؤكدا ان الماضي لا يفهم الا على ضوء الحاضر، وما يتمسك به هو عطف صورة المنتصر في الحاضر على صورة اجداده في الماضي. فالتاريخ المتواتر في أزمنته المختلفة تاريخ واحد عنوانه صورة المنتصر التي تمحو صورة نقيضه. فالمنتصر لايزال يتابع انتصاره حتى اليوم، تاركا للضحايا الانتظار أو الاعداد لمعارك قادمة. فأدخل بنيامين مفهوم (التخاطر) الذي هو (التماهي العاطفي) مع الاخر، فاذا كان التقدم هو تقدم المنتصرين المستمر على جثث الضحايا فان التاريخ الوحيد الواجب كتابته هو تاريخ الضحايا المتجانس في جميع الأزمنة. فهو يعارض الصيغة الرسمية لكتابة التاريخ التي تصور تاريخ المنتصر الذي جوهره الحروب والكوارث والمذابح … لذا لا تظفر الروح الانسانية الا بولادة تاريخ جديد يقوم على العدل وانصاف المظلومين لا على الانتصار.
واخيراً فإن نظرية بنيامين التي تبشر بالانتصار وتشد على يد يأس لا شفاء منه تقوم على:
أ. ان التاريخ الانساني رغم الانتفاضات الثورية التي قطعت استمراريته بشكل مؤقت كان ولايزال تاريخ المنتصرين يكتب المنتصر تاريخه الخاص، كما يشاء ويكتب، كما يشاء تاريخ ضحاياه الذين منعهم من الكتابة.
ب. لا يحتاج المغلوبون الى تاريخ الا اذا كانوا قادرين على استثماره في معارك تجدد هزائمهم , وحين يستمرون في القتال لا يأتون بجديد يبرهنون على اعتناقهم لتاريخ خصومهم الذين يرثون الارض والكتابة واحلام الذين فاتهم الانتصار.
قراءة في فكر فالتر بنيامين…. “يكتب التاريخ من قبل المنتصرين”

التعليقات مغلقة