فرصة لكسر المأزق السياسي في العراق

مايكل نايتس *

خلال الأسبوع الماضي، تمكنت «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش») – جماعة مدرجة على لائحة الولايات المتحدة للإرهاب – من السيطرة على الموصل، ثاني أكبر مدينة في العراق. وفي الواقع أن «داعش» وأسلافها لطالما تواجدوا سراً في المدينة وقاموا بعمليات مختلفة، شملت جمع التبرعات الكبرى عبر شبكات الجريمة المنظمة، لكن حالة الانهيار الراهنة أظهرت سيطرةً علنية للإرهابيين على الشوارع إلى حدٍّ لم تشهده [المنطقة] منذ عام 2005.

وقد باشر تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» هجومه بعمليات تقصّي معمقة أجرتها قوافل المقاتلين السُنة عند الأطراف الشمالية والغربية للمدينة في 6 حزيران/يونيو، لكنه سرعان ما تعاظم هذا الهجوم شأناً وحجماً. واليوم يتنازع مئات المتشددين علناً مع القوات الحكومية في الأحياء ذات الأغلبية العربية إلى الغرب من نهر دجلة. وقد اضطر مجلس المحافظة والمحافظ إلى الانسحاب من مكاتبهم، التي تم اجتياحها في 9 حزيران/يونيو؛ وأفادت الأنباء أنهم تحت حماية الأكراد في شرق الموصل. وعند كتابة هذه السطور تسيطر قوات «داعش» على محيط المطار الدولي والقاعدة الجوية العسكرية في المدينة؛ والأسوأ من ذلك، نجح تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» في الاستحواذ على ما يزيد عن 200 مركبة مدرعة زودتها الولايات المتحدة فضلاً عن كميات كبيرة من الأسلحة، مما يعزز قدراته بشكل كبير في العراق وسوريا. وفي الوقت نفسه، تردد أن أكثر من150,000 شخص قد غادروا المدينة، ويمكن رؤية تدفق النازحين على طول الطرق المتجهة خارج المنطقة.

وإلى جانب الفاجعة التي ألمّت بالموصل، كان تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» قد نفّذ هجمات هذا الشهر على عدة مناطق أخرى:

• في 5 حزيران/يونيو، شنّ المئات من مقاتلي «داعش» هجوماً كبيراً على الأجزاء الشرقية من مدينة سامراء، تلك المدينة التي ساهم تفجير المقام الشيعي «هادي العسكري» فيها في شباط/فبراير 2006 في اندلاع حربٍ طائفية منذ عدة سنوات. لكن هذه المرة، أدت الهجمات المضادة الفورية فقط التي قامت بها قوات الأمن – والتي شملت أيضاً اشتراك الميليشيا الشيعية «عصائب أهل الحق» – إلى منع اجتياح المقام وما كان ليستتبعه من سيناريوهات طائفية سلبية.

• لا تزال الفلوجة بيد الثوار، و تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» يشنّ هجمات مضادة محلية من أجل الحفاظ على خطوط تواصله مع المناطق الريفية في الرمادي وضواحي بغداد الجنوبية.

• يقوم تنظيم «داعش» بشن هجمات على طول الخط المتنازع عليه بين العرب والأكراد في شمال العراق، باستغلاله التوترات بين قوات الأمن الاتحادية وقوات البشمركة الكردية.

• تواجه بغداد عمليات استهداف مستمرة من قبل موجات من السيارات المفخخة.

هل تتوحد القوى الأخرى ضد «داعش»؟

لكلّ فصيلٍ بارز في العراق مصلحة في دحر تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» في الموصل وأماكن أخرى. فالفصائل الشيعية، التي تشمل المعارضين لرئيس الوزراء نوري المالكي، تعتبر «داعش» نموذج الحركة السنية المتسلطة، التي تسعى إلى قتل أو طرد أو قمع الشيعة. أما العرب السنة، حتى أولئك الذين يعارضون المالكي بمرارة، فيجدون في «الدولة الإسلامية في العراق والشام» تهديداً لوجودهم – إذ أن صمودهم كطبقة سياسية يعتمد على هزيمة «داعش» إلى حدٍّ أكبر من أي فصيل آخر. وقد جاء تنامي قوة هذا التنظيم في العراق في المقام الأول على حساب السلطة السياسية والقبلية والدينية للعرب السنة. إن سيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» في الموصل تهدد مباشرة مصالح الأسرة السياسية السنية الأبرز التي تشمل المحافظ أثيل النجيفي وشقيقه رئيس البرلمان والسياسي العربي السني الأكثر تأثيراً في العراق أسامة النجيفي.

وفي الوقت نفسه، شاهد الأكراد السنة تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» يزداد قوةً ويصبح أكثر جرأة على مرمى حجرٍ من «حكومة إقليم كردستان» التابعة لهم في الشمال وفي المناطق الكردية من سوريا عبر الحدود. ففي 29 أيلول/سبتمبر 2013، قام تنظيم «داعش» باستهداف العاصمة الكردية أربيل بسيارة مفخخة وإطلاق نار كثيف. إن «حكومة إقليم كردستان» هي الآن في حالة تأهب قصوى تحسباً لوقوع هجمات جديدة على المدن الكردية واحتمال شن غارات من قبل تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» على مجتمعات كردية معرضة للخطر في المناطق المتنازع عليها.

ولعل بصيص الأمل المحتمل في الأزمة الراهنة هو أنها قد تحث الفصائل العراقية على وضع الاستقرار السياسي نصب أعينها من جديد. ويناقش السياسيون حالياً قضيتان ذات أهمية حاسمة وهما: تشكيل الحكومة المقبلة عقب الانتخابات البرلمانية في نيسان/أبريل، والخلافات المستمرة حول الإيرادات والتراخيص النفطية بين الحكومة الاتحادية و»حكومة إقليم كردستان». وبغض النظر عن التوازن الدقيق للمقاعد في البرلمان الجديد، تعد كافة المجموعات العرقية والمذهبية الكبرى ضروريةً لتشكيل الحكومة. علاوة على ذلك، في الوقت الذي تتصاعد فيه حدة العنف، يسيطر الأكراد على الاحتياطي الوحيد من القوات العسكرية غير المرتبطة [بالجيش العراقي] وهي «البشمركة». إلا أن «حكومة إقليم كردستان» وجدت نفسها أمام مهمة شاقة في بغداد بسبب حجب مخصصاتها من الموازنة والتدخل في مبيعاتها النفطية المستقلة بواسطة التهديدات القانونية.

لذلك فإن مشكلة «الدولة الإسلامية في العراق والشام» والحاجة إلى تسوية برلمانية تشكلان أرضاً خصبة لجهود الوحدة الوطنية تقدم فيها بغداد تنازلات في عدة مسائل: تتنازل للأكراد بشأن مساعيهم لتصدير النفط على المدى القريب، ولفصائل العرب السنة حول الإصلاحات السياسية والأمنية واعتماد الفدرالية في المناطق التي يمثلونها. وفي الواقع أن خيارات التسوية المتاحة معروفة جيداً ويمكن تطبيقها إذا توفرت الرغبة السياسية بذلك لدى كافة الجهات المعنية. ومع أن الجدل لا يزال قائماً بين الأكراد والحكومة الاتحادية حول تفاصيل هامة عن النفط والعائدات، تتداخل مواقف الطرفين بشكلٍ ملحوظ. إذ تقبل بغداد اليوم بأن تبيع المنطقة الكردية نفطها إلى الأسواق العالمية، على أن تتلقى العائدات (ناقص التعويضات للكويت) على شكل سلفة على التحويلات الشهرية من وزارة المالية الاتحادية لـ «حكومة إقليم كردستان». ولا تقف في طريق التوصل إلى اتفاق سوى التفاصيل حول الحسابات المصرفية المحددة وترتيبات التسويق. ومع ذلك يستمر الاقتتال الداخلي – فحين غادرت ناقلات النفط التابعة للإدارة الكردية من تركيا في 22 أيار/مايو و9 حزيران/يونيو، أصدرت بغداد تحذيرات إلى المشترين المحتملين وقدمت طلب تحكيم ضد حكومة أنقرة.

لكن لا بد لهذه التجاذبات والمجازفات السياسية أن تتوقف أمام فاجعة سقوط الموصل وفقدان السيطرة عليها. وفي الواقع، قد تحتاج بغداد إلى كسب تأييد الدعم الكردي لتحقيق الاستقرار في المدينة والمناطق المحاصرة الأخرى، وعلى وجه التحديد من خلال تقديم تنازلات حول تسويق النفط وإدارة الإيرادات.

وعلى النحو نفسه، إن أزمة الموصل والتهديد المتزايد الذي يشكله تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» يخلقان لحظة ذات أهمية قوية مشتركة لكل من المالكي والطبقة السياسية السنية بزعامة النجيفي. إن الالتزام بتعيين وزير دفاع عربي سني ومنحه الصلاحيات الكاملة في الحكومة المقبلة قد يكفي لتعبئة المقاومة السنية ضد تنظيم «داعش» ويسرّع تشكيل الحكومة المقبلة. كما أن إسقاط الاتهامات الاتحادية المشبوهة بالإرهاب والموجهة ضد وزير المالية السابق رافع العيساوي قد تسهّل إلى حدٍّ كبير تشكّل جبهة متعددة الطوائف ضد هذا التنظيم. أضف إلى أن الإعلان عن تشكيل ميثاق قوي بين المالكي والنجيفي بشأن إصلاحات اجتثاث حزب البعث ومكافحة الإرهاب بات إمكانية كبيرة – وبالفعل سبق أن حاول المالكي إجراء مثل هذه الإصلاحات عام 2013، إلا أن تلك المحاولة كانت تفتقر فقط إلى الدعم الشيعي الذي قد يكون الآن متاحاً نظراً للأزمة المتفاقمة. وكما ذكر أعلاه، فإن الحوار البنّاء حول الخيار المباح قانوناً بتشكيل منطقة إدارية واحدة أو أكثر (مشابهة لـ «حكومة إقليم كردستان») في المحافظات ذات الغالبية العربية السنية قد يشكل خطوةً حكيمة إذا ما تمت مناقشة التحديات العملية بشكل صادق ونزيه.

دور الولايات المتحدة

لا تزال الولايات المتحدة تتميز بمكانة فريدة للعب دور الوسيط الصادق في العراق. ونظراً إلى أحداث هذا الأسبوع، يتعين عليها أن تعيد النظر في ما إذا كان تغيير اللهجة بشأن تصديرات النفط الكردية ومركزية الدولة له ما يبرره. وها هي واشنطن تتحلى مرة أخرى بكلمة مسموعة في بغداد بفضل المساعدات الأمنية التي تقدّمها للبلاد، لا سيما إذا تمكنت العراق من الاستفادة من انشاء الصندوق الجديد لمكافحة الارهاب بقيمة 5 مليار دولار الذي أعلنه الرئيس الأمريكي أوباما. ولكن مع وقوع الأسلحة الأمريكية في يد الإرهابيين بوتيرة مقلقة، يحق لواشنطن تماماً أن تجعل تعاونها الأمني رهناً باستعداد بغداد للقيام بتضحيات مؤلمة والتوصل إلى إجماع وطني. ومن الواضح أن مشاكل العراق تتخطى بأشواط الحسابات المصرفية أو حقوق التسويق للنفط أو المشاحنات الطائفية التي تضر البلاد. لذا يجدر بواشنطن أن تدعم صيغة جريئة جديدة لوضع حدٍ للتدهور الأمني الحاصل: فقد يضطر الوسط العراقي إلى تخفيف قبضته إذا أراد الحفاظ على وجوده.

*مايكل نايتس هو زميل ليفر في معهد واشنطن ومقره في بوسطن.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة