بين التفاؤل الساذج والصورة المفبرّكة

كاظم الواسطي*

في خضّم الخطر الذي يحيق بالعراق اليوم، شعباً وتاريخاً، بدأ بعضٌ من الكتاب والإعلاميين يصول ويجول على ساحته الإفتراضية في صحيفةٍ أو على شاشة، ليرسم عليها خارطة الحدث على وفق ما يُنقل من مصادر تعددت مشاربها وإتجاهاتها من دون الاعتماد على قاعدة معلومات موثوقة، ومعايشة مباشرة تتطلبها مهنية العمل وقواعده الإخلاقية، خاصة في وقت الأزمات السياسية الحادة، والنزاعات الأهلية في مجتمعات، مثل العراق، تتميّز بالتنوّع القومي والاثني والديني، وتداخل سكانها مناطقياً .

وهذا المبدأ يجب أن يُطبق في الإعلام الحكومي والمستقل معاً . فحيث يعتمد بعض إعلاميينا على أفكار مؤسسته الرسمية وأهدافها وما تُمليه من توجيهات لتحديد مسارات الحدث، ومحاولة تصويرها من زاوية نظر تتحكم بها سلطةُ رؤيةٍ واحدة، تتناغم مع أهوائه ومعتقداته، دون أن يفتح عينيه على حقيقة مغايرة، خبراً أو معلومة، تُخالف ما تريده هذه المؤسسة، من زاوية المصالح السياسية، في الترويّج للتمكّن والسيطرة، وإقصاء بعض الحقائق أو إنكارها بصورة مطلقة مادامها تصدر من جهة أخرى . وهذا الأمر يدخل ضمن منظومة التلقين الدعائية المهيمنة التي إعتاد، هذا البعض، التفكير والعمل في إطارها، وتحويل كل ماهو متعارض معها إلى مجرّد ” شائعة ” لا يجب التحقق منها، ومعرفة درجة صدقيتها، في وسط يضّج بالخلاف والنزاع المجتمعي.

وبذلك يخلق هذا النمط من العمل الموجّه نوعاً من التوازن الوهمي الذي ستكون نتائجه بالغة السلبية على ذهن المُخاطب، مواطن يترقّب المجهول أم جندي محاصر بالخطر، ويُرسّخ في عقله أشكالاً هشّة من التفاؤل الساذج تساعد على الغفلة والإهمال، وعدم تقدير طبيعة المخاطر، وما يرسمه الآخر من سيناريوهات لتغيير الوقائع على الأرض من حوله.

إن رفع منسوب المعنويات في نفوس المواطنين لايتحقق بإغماض عيونهم على طبيعة ما يجري من حولهم، بل بكشف الحقائق وإزالة الإلتباس من أذهانهم التي تواجه شبكة من المعلومات المتعارضة والمتناقضة . وفي الجانب الآخر، هنالك من يتعاطى مع واقع الحدث على هوى ومواقف مستثمريه وأولياء ” نعمته ” ممن لهم مصالح معروفة في تأزيم الأوضاع من منظور الكسب الأكثر، وشخصنة الأزمة العامة بدافع المنافسة على الغنائم، كما لو أن العراق وتاريخه، برأيهم، مختزلٌ في شخص ” فلّان أو علّان” وخارج عمل المنظومة الثقافية والسياسية التي أنتجته في ظرفٍ معين، ومهيأة لإنتاج الأكثر من أشباهه على الأرضية الهشّة ذاتها بمشاركة من ليس لهم معدن مختلف في درجة النقاء.

وفي هذا الحال، يستمر عمى الموقف المسبق، وانتقاء ما يروق لهم من صور المشهد العام، وإن كانت مُقطعّة من هنا وهناك مادامت تشكّل الرقّعة ذاتها في إخفاء العورات ونجد، اليوم، مثل هؤلاء كثيرين وهم يهلّلون للـ ” خبر العاجل ” في أحداث متحركة كما لو أنه حقيقة ثابتة على الأرض لا يمكن أن تتغير، ويلتقطون الصوّرة المجتزأة من المشهد الذي مازال ملتبّساً، وكأنها البانوراما الجديدة للحياة في العراق . وتبقى المشكلة في عرضهم لتلك الصور على مدار الساعة حتى وإن تغيّر واقعها على الأرض، وحلّت في مكانها صور أخرى مختلفة، لكنها لا تُرضي أولياء فضائهم الإفتراضي المستفيدين، كما المرتزقة، من تأجيج وترويج الأزمات،والرقص على جثث الأبرياء .

إن التبعية، بلا شروط المهنة، لماكنة المال في دورانها الربحي لا يُتيح وقتاً لبائعي الضمائر للتحقق والمراجعة في ظل تسارع الأحداث، بل يضيفون لتلك الأحداث مطيّبات صوّرٍ مفبرّكه تؤجّج مشهد الأزمة، وتُزيد في عمل دوران ماكنة الربح، و ” عطاء ” ساسة تصنيع الموت . وفي الحالتين، هناك لعب وتضليل لذهن المواطن العراقي المصدوم بزحف قطعان الدم على أرضه، وهو من عانى كثيرا من أسيادهم السابقين الذين دمروا العراق وأهله في حروبهم الدموية، وجعلوا من مساحة العراق قضباناً صدئة ذبلت وراءها أعمار أجيالٍ من أبنائه.

وها هم اليوم يُريدون مع حلفائهم بالدم، الذين أكملوا مشروعهم الدمويّ القديم بمفخّخاتهم وأحزمتهم الناسفة التي حوَلت أجساد العراقيين إلى أشلاء في الشوارع والأسواق العامة، بالعودة من جديد بثيابٍ طائفية ملطّخة بالدم لمحو ما لم يسعفهم زمن حكمهم السابق من تحقيقه . تلك حقائق موثقة على أجساد العراقيين، وفي أرواحهم المعذّبة، تتطلب من الصحافيين والإعلاميين الشرفاء أن يضعوا ذلك نصب أعينهم، وفي أرشيفهم المهني الذي سيكون جزءاً من الإرشيف العالمي عن حوادث التاريخ، حيث سيُؤشر بالأبيض أو بالأسود على شهادات حيّة أنصفت الحقيقة ودافعت عن حياة الناس وآمالهم، أو حرّفت الوقائع وساهمت في تخريب الحياة على أرضٍ تتعرض لغزو البرابرة الذين ستُرسم وجوههم على صفحات التاريخ السوداء.

إن المواطن العراقي يحتاج الآن لمن يجعله أكثر تماسكاً ومقدرة على الرؤية بوضوح، عبر الكشف الدقيق والموضوعي، إعلامياً وصحافياً، في نقل الخبر والصورة والتحليل مع أهمية الجانب الأخلاقي في الوقوف مع مشاعر العراقيين في دفاعهم عن حقهم في حياة آمنة، مهدّدة الآن بمخالب متوحشين يتسللّون من أنقاض التاريخ ورماده الأسود ليحرقوا كل ماهو أخضر في هذا العالم . وهي مسؤولية أخلاقية في أعناق صنّاع الخبر والمعلومة على مستوى دول العالم في كشف هذا الوباء الذي لا يعرف حدوداً في نشر مساحات موته . نعم، نحن الآن أحوج ما نكون إلى من يؤكد على معرفة وكشف الأسباب الحقيقية التي تقف وراء الأحداث، وخاصة ما يتعلق منها بهذا الانهيار المفاجئ للجيش في مدينة الموصل، وما تبعه من تداعيات في مدن عراقية أخرى قد تضع البلاد في مهّب الخراب . إن ما تناقلته بعض التقارير عن وجود ” مؤامرة ” مخطط لها إقليمياً مع الإرهابيين وبالتنسيق مع بعض قيادات الجيش تستحق التوقف كثيرا، وتستدعي المطالبة، شعبياً وإعلامياً، بكشف حقائقها الخفيّة ومحاسبة المقصرين فيها .ولكن مثل هذا التوقف، على أهميته، يجب أن لايجعلنا نستبعد الإختلال العميق الذي تراكم في بنية هذا الجيش، وطبيعة تشكيله في ظل حكومة محاصصة، ونزاع ساسة بددوا صورة الوطن على خارطة الطوائف، وجعلوا من الفساد عنواناً لأداء الخدمة في مرافق الدولة، وأخلّوا بمعاني الوطنية في روح المواطن.

إن الاحتقان الطائفي وعدم الثقة بين ساسةٍ صادروا تمثيل مكوناتهم الطائفية، وقاموا بتعبئتها على الكراهية، وتشويه صورة بعضها عن بعض، قد انعكس جلياً في إرباكهم للعلاقة بين الجيش وسكان المناطق التي يتواجد فيها، فلا الجندي مطمئن على وجوده هناك، ولا سكان تلك المناطق يثقون بحماية هذا الجندي لهم !. 

وأعتقد بأن هذا كان من العوامل المهمة في صنع فجوات الإنهيار وتداعياته .حيث إستطاع إرهابيو داعش اللعب على هذا الإختلال والإندفاع في فجواته بسهولة . وفي مثل هذا الواقع الملتبس تستدعي المهنية والموضوعية في العمل الصحافي والإعلامي، توخّي الدقة في نقل المعلومة وبث الخبر، وعدم إطلاق العنان للمخيّلة المنفعلة في التأويل والتفسير، وبناء التوقعات على ما ينقله هذا الطرف أو ذاك من أخبار ومعلومات بدافع رفع معنويات جمهوره، وزعزعة الحالة النفسية للجمهور الآخر، حيث سيعمّق هذا العمل الإختلال الموجود ويحوله إلى حالة من الفوضى العارمة، وإثارة لعواطف النزاع المجتمعي الذي سيتخذ أشكالاً من العنف يتم إستثمارها من قبل الجماعات الإرهابية لتحقيق مآربها في تدمير البلاد بحرب أهلية هي ورقتها الأساسية ومبتغاها الأخير.

علينا جميعاً أن نضع أمام عيوننا صور النزاعات الأهلية وما تتركة من مآسٍ وجروح عميقة في حياة المجتمعات، وأن نقف إلى جانب دفاعات الشعوب عن حياتها وتاريخها، ونبيّن بإملاءات ضمائر حيّة لشهودٍ أحياء، حقيقة الإرهاب وممارساته الإجرامية التي لن تستثني أحداً خارج دائرتها السوداء المرسومة بدم الأبرياء، والتي لن يكون فيها لعوالم الحق والجمال والفن، غير الجلد بحبال شريعة عمياء، لاتعرف معنىّ للثقافة والحياة .

*كاتب عراقي

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة