نصيف فلك *
يتجرع العراق كل يوم خلطة سموم وعصائر زعاف متنوعة مثل عصير السعودية مرضعة الارهاب وهي تشرع ثدييها من نيجريا الى افغانستان، ترضع المجاهدين حليبا اسود فتسقي العراق من زبد هذا السم. وعصير ايران المثلوج بتصدير ثورتها الذي يفوح بعطر البارود ونكهة الفقيه.
يتجرع العراق المسكين عصير السيارات المفخخة بماركات شيشانية وسعودية وافغانية وتونسية وكويتية واردنية ومصرية، يتجرع عبوات ناسفة مزروعة في الارض وجذورها في السماء، إذ حالما يفطس المجاهد الانتحاري على صخرة البلاد تفتح له الفتنة ساقيها حيث تتفجر سواقي العسل والخمر واللبن ترقص على شواطئها جواري الغنج الخنس.
يتجرع عصير الرصاص المصفى بلحى اسلاميي الشرق الاوسط، كما يتجرع ويغص بسم دسم مفتول الشوارب يسمونه حزب البعث.
مسكين هذا البلد وهو يتجرع كوكتيل قومية طائفية عنصرية دينية مذهبية اقليمية مناطقية حدودية قبلية عشائرية عوائلية حزبية الى آخر قوائم الهتلية.
تجرعت كل هذه الخلطات من عصير السموم ولم اترنح واسقط ، تجرعت كوكتيل الجرائم كلها ولم أهوي ولم اقع ، لكني اليوم أختنق وأهيم على وجهي حتى أجثو على ركبتي أبكي ناحبا مثل الامهات الثكالى واثغب :
ـ الموصل.. يمه راحت الموصل.. يا وطني فقدنا الموصل.
متاهة احذية
مثلما كانت جريمة السياسيين والاحزاب الدينية في تبييض وجه صدام وتحسين صورة البعث مع إتلاف أضخم ملف للجريمة المنظمة، كذلك هي جريمة المثقفين والكتاب والصحفيين الذين مسحوا وجه القاتل ودسوه مع وجوه الضحايا من خلال مقالاتهم وكتبهم ورواياتهم وقصائدهم، جريمة هؤلاء تكمن في خيانة الضحية وتشويه معنى الوطن والبلاد حتى صار القارئ والمواطن البسيط ينفر ويشمئز من وطنه وعنده استعداد تبديل وطنه كما يبدل حذاءه . ولم يكتف الكاتب والمثقف والصحفي انه مسخ ،بل عمد يشتغل ليل نهار الى تشويه الجميع وجعلهم مسوخ مثله، وهذا هو العهر الثقافي.
احتلال الموصل مكيدة تجر وراءها ذيولا لا تعد ولا تحصى :
أقل من اربعين سنة هو عمري مع الوسط الثقافي، أعرف تقلباتهم المناخية ودقلاتهم الفلسفية ونتاجاتهم المنقولة وغير المنقولة كما اعرف النقاشات العويصة التي تدور رحاها في ميادين الوغف حتى صارت عندي خبرة عميقة عنهم :أحفظهم عن ظهر قلب. ادركت بقين أبيض بان القسم الكبير من المثقفين ـ تقريبا ثمانية وتسعين في المئة ـ هم دائما يطمسون الانسان بداخلهم ويقدمون عليه المثقف كما يفعل السياسي بالضبط : يقمع الانسان بداخله ويخرج منه السياسي محتفيا به. دائما يزيحون ضميرهم من أجل الشهرة والمكاسب الثقافية..
كان جميع اصدقائي المثقفين يضحكون على عقلي عندما اقول لهم :ان البعث لا يزال حي يتنفس وهو يعمل ليل نهار على استعادة السلطة وما الفلوجة إلا مثال حي للبعث. طبعا مثلما يعرف كل الناس ان الفلوجة لم تنتفض ساعة واحدة على حكم البعث وصدام في حين بقيت منتفضة منذ سقوطهم ولحد الان، بل وتمادت الفلوجة وهي تفتح فخذيها للافغاني والشيشاني والسعودي واليمني والمصري والتونسي، ادخلت علينا كل زناة الارض من المجاهدين، وكان المثقف أثناء وبعد رفع خيم المعتصمين مع هؤلاء الزناة بكتاباته وهو يلتف ويدور ويراوغ ثم يصعد الى عنان السماء ويهبط الى العالم السفلي وبالنتيجة يصطف مع هؤلاء الزناة بحجة الدفاع عن الفلوجة. انا لا اخاف من تهمة الطائفية طالما كنت واكون صادقا مع نفسي ومع غيري، أنا على يقين جارح بأن أهل الفلوجة غير الملوثين بالبعث والجريمة وداعش هم ضد مدينتهم التي تستقبل كل الجنسيات من الذباحة يوميا. أنا مع ضحايا الفلوجة وضد كوكتيل الجريمة.
قلب الديوث
كيف أحترم نفسي والزناة على بابي؟ وكيف يحصل المالكي على ولاية ثالثة؟
كان فجر الثلاثاء من حزيران هو فجر الخيانة ويوم القيء العراقي. كل من لم يشعر بالخزي وبالعار مشكوك في عراقيته لأنه يوم احتلال الموصل من قبل السعوديين والشيشانيين والافغان والعرب والبعثيين. كل من لم يشعر بدخول جسم غريب في احشائه ليس عراقيا، طبعا داعش هو الاسم الجديد للبعث، بعث بلا شوارب ثمانية شباط وبلا زيتوني ومسدس في الحزام. انه بعث بزي اسلامي حسب موديل وتقليعة هذه الايام. أيام الاسلام السياسي السود التي مرغت وجه الحياة في بالوعات الجهاد ووحل التقوى ونجاسة الورع.
كل هذا الخزي والعار والمثقف العراقي ما زال على نفس الصلافة والوقاحة والفصاحة، هذا هو ما يمزقني وما يجعل الناس تتهم المثقفين بعد نكسة الموصل.
المثقفون الذين لا يشعرون بأي غصة والبو داعش يغتصبون نساء الموصل بماذا نصفهم، والذين ليس لديهم أي شعور بالذنب والاحباط من خلال كتاباتهم وتعليقاتهم بعد احتلال الموصل بماذا نصفهم ؟ مثقفون ليس لديهم احساس بالتهديد والخطر والزناة على باب الوطن، الكارثة انهم بقوا بنفس تلك اللهجة العدائية للبلاد والمتعالية على جراح الناس.
بقي المثقفون والكتاب والصحفيون ممن يبصقون في قلب الجيش وقلب الوطن، بقوا على مقالاتهم واعمدتهم وتصريحاتهم ذاتها فجعلوا الجيش مهزوما قبل الهزيمة بحيث كان البعثيون يسوقون للناس كل هذه الشائعات الثقافية فعاليات المثقف ضد الجيش. هم أنفسهم ـ المثقفين ـ من تباكى على رفع خيم الاعتصامات وراحوا يلعلعون ليل نهار ولم يكترثوا لوجود البعثيين والدواعش والارهابين بينهم. ولما انهزم الجيش راحوا يكتبون بلهجة الشماتة كأنهم يمتلكون بدائل أوطان كثيرة غير العراق في حال خسارته يستطيع استبداله مثل الحذاء.. لقد سمعت نغمة شماتة يوم خسرت البلاد الموصل.
نسيان الجريمة ولادة قاتل جديد
شبعت لوما وخصاما من اصدقائي الكتاب والمثقفين والصحفيين لمجرد ذكر البعث وصدام في كل مقال اكتبه عن الحكام الجدد وعن الاحزاب الدينية فاربط أي جريمة بهم لأنهم المدرسة الاولى في العراق لتعليم فن القتل وفن التسقيط وزرع الفخاخ فيحصل المتخرج منها على شهادة الشذوذ في الجريمة واحتقار الوطن وجميع الناس متهمين حتى تثبت براءتهم، تلك هي مدرسة البعث. واصدقائي المثقفون اشبعوني لوما لحد التخمة حين اتناول البعث وصدام بكتاباتي، بل وراح البعض يتجاسر ويتغامز من ورائي ويقول عني :سجين اللحظة الانفعالية لألفين وثلاثة، انه انتقامي طالب ثارات حتى من البعثيين الموتى والحزب المدفون ، انه ساذج لا يعرف شيئا غير البعث وصدام.
هكذا كانت تدور من ورائي الهمزات واللمزات وكنت اعرف واصر على عدم نسيان جرائم البعث وصدام فكل شيء يموت إلا الجريمة واذا لم يتذكرها أحد ويفضح مرتكبيها سوف تحبل بولادة قاتل جديد. ولأني اعرف أن نسيان دكتاتور هو السماد الحي لظهور دكتاتور جديد، وها هو البعث يظهر من جديد في الفلوجة والانبار ويحتل الموصل. هنا أقول لأصدقائي :
من هو الساذح، ومن ليس له بعد نظر ويحدس ويتوجس ، من الان بوصلته خربانه؟؟؟
اصدقائي الكتاب والمثقفين والصحفيين انقلبوا الى أعدائي أثناء نصب خيم الاعتصامات في الانبار والفلوجة حين قلت : أشم رائحة بعث فيهم.
وعاد اصدقائي الاعداء مرة اخرى الى لغة اللوم والتقريع والتجريح ثم الى الزعل والمقاطعة خاصة بعد رفع خيم الاعتصامات. أن يوم رفع الخيم يوم فاصل يشهد على خراب علاقاتي بالوسط الثقافي وخاصة أقرب الاصدقاء… حالما تم رفع خيم الاعتصامات نصبت خيمة(جادر) مأتم كبير لأصدقائي الموتى من الكتاب والصحفيين والمثقفين. ماتوا يوم قلبوا الدنيا على اربعة قتلى في الفلوجة ولم يخسروا حرفا واحدا أو دمعة مجاملة على ستة جنود قتلوهم وسحلوهم في شوارع الفلوجة بنفس ذاك اليوم. لماذا تم التمييز والانحياز والتفرقة بين ضحية واخرى ، في حين يوصف المثقف بضمير عصره ويكون دائما وابدا غير متحيز ولا يفرق بين جميع الضحايا مهما كانت أديانهم وجنسياتهم وقومياتهم وطوائفهم ومذاهبهم ، الضحية هو الضحية في كل زمان ومكان.
اغتاظ المثقفون من هذا الكلام وجرى تداول التهم سرا فيما بينهم عندها قاطعتهم واضربت عن الكتابة في الصحف وغيرها وأغلقت صحفتي في الفيسبوك وقاطعت الذهاب لشارع المتنبي حتى لا يحتضنني من يمقتني وهو يعرف وانا اعرف انه يكرهني ، وفرت عليهم النفاق وقبلات بروتس.
مهرجانات اعدام
حالما رفعوا خيم الاعتصامات رفع المثقفون الاقنعة وكشروا عن وجوه مسوخ لها صلة قرابة بمسوخ مثقفي البعث وصدام ، وها هو احتلال الموصل يفضح عورتهم فلا حجة عندهم الان بعدم وجود البعث ، ولا يستطيعون اليوم الدفاع بأعذار استثنائية عن اغتصاب نساء الموصل ، وليس لديهم تبريرات قهرية لحرق الكنائس ولمهرجانات الذبح والاعدامات الاحتفالية.
اليوم تحققت امنياتكم بما كتبتم وما سطرت اقلامكم من ملاحم بطولية في الدفاع عن البعثيين في خيم الاعتصامات في الفلوجة ودفاعكم عن الذباحة في الانبار المنكوبة ودفاعكم عن المغتصبين في الموصل المحتلة. كما تحققت مشاريع السياسيين وفتاوى رجال الدين في انتصار البعث وداعش واندحار الجيش والعراق. كما نزف البشرى للمالكي بولاية ثالثة فوق مقابر حروب البسوس.
يهوذا والمسيح في ضمير المثقف
كان المفروض بي ان أقطع علاقتي بجميع اصدقائي المثقفين يوم عرفت انهم اصدقاء الشاعر البعثي سامي مهدي الذي نرى بصمته في جثة كل معدوم . لا ادري كيف سوغ لهم عقلهم وضميرهم واخلاقهم ان يكونوا اصدقاء للجلاد واصدقاء للضحية في آن واحد. لماذا كل هذه الازدواجية؟ لماذا هذا الفصام والشيزوفرينيا؟ لماذا كل هذه الوقاحة والبجاحة في ان تكونوا اصدقاء للخنجر وللجرح بنفس اللحظة؟ أنتم أبناء سلالة سحل الملوك والامراء في شوارع بغداد ، انتم احفاد من اقام مهرجان(فرهود اليهود) ، انتم أبناء من قتل الزعيم عبد الكريم قاسم. تحملون في رؤوسكم وجهي يهوذا والمسيح.
المثقف العراقي يرتعب من تهمة الطائفية حتى وصل به الخوف لحد خيانة الضحية ، أعرف جميع الكتاب والصحفيين والمثقفين ان لديهم استعداد للتلوث بكل دماء الضحايا بشرط ان لا يتهمهم احد بالطائفية . لديهم استعداد لخيانة ضميرهم وخنق الانسان بدواخلهم وكتم صراخ القلب من أجل ان يبقى خارج تهمة الطائفية.
كما لديهم استعداد آخر لخيانة الضحية وتشويه سمعة المقتول من أجل عدم خسارة الدول العربية ، عندهم استعداد لفعل أي شيء مخجل وسيء لبلادهم من أجل عدم التفريط بالمحيط العربي. لا يهمهم نزيف الدم العراقي اليومي لأنه خبير في تخدير الضمير وخبير في التحايل على طمس معالم الجريمة في عدم توجيه الاتهامات الى ذباح سعودي أو انتحاري اردني أو سفاح مصري. لدى المثقف العراقي خبرة في التزوير الثقافي وضم وجه القاتل بين وجوه الضحايا ، هو مبدع في خلق متاهات يضيع بها القارئ وتأخذه بعيدا عن مكان الجريمة وبعيدا عن ملامح القاتل حتى لا يخسر مثقفنا هذا المحيط العربي ويخسر ملايين القراء العرب، أنه كما وصفه السيد المسيح : ما فائدة ان تربح العالم وتخسر نفسك؟؟؟
*كاتب وروائي عراقي