حسن خضر*
حسم الجيش الصراع في مصر وعليها بالانحياز إلى الشعب مرتين في سنوات قليلة. الأولى في الثورة التي أطاحت بمبارك، والثانية في الثورة التي أطاحت بالإخوان. وقد برهن في المرتين على حقيقته بوصفه حامياً للشعب، وحصناً من حصون الوطنية، وسنداً رئيساً للدولة المصرية.
الصراع في مصر بين قوى داخلية تتبنى قناعات مختلفة بشأن كيفية إدارة شؤون البلاد والعباد. والصراع عليها بين قوى في الإقليم والعالم تعرف أن الاستيلاء على مصر، أو إيجاد موطئ قدم فيها، يعني الفوز بجائزة ذات قيمة استراتيجية عسكرية، وسياسية، واقتصادية، وثقافية هي الأهم في العالم العربي. وفي الحالتين حدث تشابك مؤقت، أو دائم، بين مصالح قوى في الداخل والخارج، لكن الجيش كان خارج لعبة الاستقطاب الداخلي والخارجي.
هذه مداخل رئيسة لفهم التحوّلات في مصر، بما فيها الانتخابات الرئاسية الأخيرة، التي مكّنت رجلاً خرج من صفوف الجيش من الوصول إلى سدة الحكم في القاهرة، بعد الاحتكام إلى إرادة الناخبين في صناديق الاقتراع.
في الصحافتين الغربية، والعربية، وما يماثلها من مؤسسات أكاديمية وبحثية، تجد كلاماً كثيراً عن إمبراطورية الجيش الاقتصادية، وعن انحياز الجيش إلى مصالحه لا إلى مصالح الشعب. وهذا كلام فارغ. فالجيش لم يكن في سدة الحكم في عهدي السادات ومبارك. استُبعد من موقع الصدارة الذي حققه في العهد الناصري، وتسارعت وتيرة الاستبعاد بعد حرب أكتوبر. وفي العهد المباركي، كانت النخبة الحاكمة تتكوّن من تكتلات مالية وأمنية لم يكن الجيش من بينها، على الرغم من مكانته الرمزية في النظام السياسي.
لذلك، يبدو الكثير مما يُقال عن علاقة الجيش بالسياسة في مصر تكراراً لفرضيات، وعموميات لا تصمد في اختبار الحقيقة. وهذا ما دلل عليه الباحث المصري حازم قنديل في كتاب مدهش وممتع صدر بالإنجليزية مؤخراً، ولكنه يبدو وسط فوضى التحليل والتأويل كصوت صارخ في البرية. فلا أحد من كتّاب التحليلات، بما في ذلك أوساط أكاديمية تزعم الحياد والموضوعية، ينفق ما يكفي من الوقت للعثور على حقيقته الخاصة، بدلا من ترديد السائد والمألوف، الذي يقوم مقام اللازمة في كل محاولة للكتابة عن الصراع في مصر وعليها.
وأسوأ ما في الأمر أن أصواتاً مصرية وعربية لا يمكن التشكيك في قناعاتها الليبرالية، والديمقراطية، غالباً ما تظل أسيرة إعمامات وفرضيات شائعة، فتصب الماء في طاحونة قوى لا يعنيها من أمر الليبرالية، أو الديمقراطية، شيء، وإذا أضفنا إلى ذلك منصات التواصل الاجتماعية، التي لا يتمتع 99 بالمائة من منتجيها ومستهلكيها في مصر والعالم العربي بالمؤهلات الضرورية للإفتاء في ما اختلف عليه الناس، اكتملت الصورة.
من المفهوم، والصحيح، والصحي، إبداء التحفظات، ولكن من غير المفهوم، ولا الصحيح، والصحي، الخروج باستنتاجات سريعة من نوع أن مصر، بعد ثورتين، أصبحت دولة يحكمها العسكر. وفي المقابل يمكن طرح فرضية مضادة مفادها: أن مصر المباركية، (التي لم تكن دولة يحكمها العسكر)، لن تعود، وأن مصر الإخوانية، لن تعود، وهذا يصدق على مصر الناصرية، والساداتية.
الجديد يتخلّق الآن، قد يحمل ملامح متفاوتة من العهود الناصرية، والساداتية، والمباركية (وليس صحيحاً أن كل تلك العهود كانت سلبية تماماً تستحق هي وميراثها الدفن) لكنه سيجد ملامحه الخاصة في وقت ليس ببعيد.
ومن الضروري إدراك حقيقة أن ما يتخلّق الآن، يحدث في ظل تحديات أمنية، واقتصادية، وسياسية غير مسبوقة. فهناك حرب مكشوفة يشنها الإخوان، وتركيا، وقطر، على مصر. ولهؤلاء إمكانيات مالية، وإعلامية، وميليشياوية، لا يمكن الاستهانة بها. والأسوأ من هذا كله أن لا ضوابط وطنية أو أخلاقية تحكم سلوك المهاجمين. وهذا يفرض على الدولة المصرية تدابير لم تكن لتحتاجها في ظروف أكثر أمناً واستقراراً.
وبالقدر نفسه يفرض المأزق الاقتصادي تدابير لم تكن لتكون ضرورية في ظل ظروف أكثر أمناً واستقراراً، وهذا يحدث نتيجة الوقوع رهينة الأمر الواقع الذي لا يمنح أحداً رفاهية وضع برامج استراتيجية بعيدة المدى، بل يُحرّض على ضرورة تحقيق إنجازات سريعة وملموسة، لأسباب سياسية وأمنية مفهومة ومعلومة.
الإنجازات الأهم، بالمعنى الاقتصادي، لا تكون في الواقع سريعة، ولا تصبح ملموسة قبل مرور عقد أو أكثر من الزمن. فلا إنجاز من دون إعادة النظر في مناهج التعليم، ومن دون تأهيل البنية التحتية، وضخ الحياة في الشرايين المتصلبة لقطاعات الصحة، والإسكان، والمواصلات، وإعادة هيكلة وتأهيل بيروقراطية الدولة. ومع هذا قبله، وفوقه، وبعده، قبل تحديد الهوية الاقتصادية للدولة المصرية الجديدة، التي يظل نجاحها مشروطاً بالانحياز إلى مصالح القطاع الأكبر من المواطنين المصريين.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بالسياسة، وهي الضلع الثالث في مثلث الأمن والاقتصاد والسياسة، فإن نجاح واستقرار الدولة والنظام مشروط بتبني وتحقيق الشعارات الرئيسة لثورة الخامس والعشرين من يناير: الخبز، والحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية.
عهد جديد، صحيح، ومستقبل ينفتح على احتمالات كثيرة، صحيح أيضاً، ولكنه في الحالتين يوحي بقدر أكبر من التفاؤل عمّا كان عليه الحال قبل عام مضى. ولعل في هذا، وحده، ما يبرر القول الآن: تسلم الأيادي.
*ينشر بالاتفاق مع صحيفة الأيام الفلسطينية