جمال جصاني
كما هو الأمر غالباً في مضاربنا المهجورة من نعمة التحولات التي عصفت بالقسم الأعظم من تضاريس كوكبنا، الذي تحول الى قرية بفعل الفتوحات العلمية والتقنية، يتم التعامل مع المفردات والمفاهيم الحديثة بكل خفة ولا مسؤولية. فبعد سنوات من التخبط والعشوائية في التعاطي مع متطلبات مرحلة الانتقال من النظام الشمولي المباد الى ما يفترض ان يكون نظاماً ديمقراطياً، نشاهد رواجاً غير مسبوق لمفردات ومفاهيم حداثوية مثل (حكومة الأغلبية السياسية)، بوصفها اكسيراً سحرياً للنجاة من دوائر الخيبات التي تدحرجنا اليها بجهود ممثلي ذاتها القبائل والطوائف السياسي الفائزة في الدورة الثالثة من الانتخابات النيبابية. في مثل هذه الشروط والامكانات المتاحة، هل يمكن حقاً الحديث عن أغلبية سياسية؟ أين هي الأحزاب السياسية في المشهد الراهن؟ وهل يمتلك العراقيون حزباً سياسياً بالمعنى الحديث للكلمة؟
ان الحقيقة الغائبة عن غير القليل من الضاجين اليوم على مسرح الاحداث؛ والتي يحاول البعض الآخر الالتفاف عليها بشتى الطرق هي: عدم امتلاكنا لاي حزب يمتلك المستلزمات المطلوبة للحزب السياسي بالمغزى المعروف في الادبيات السياسية. هذه الحقيقة ليست خافية عن حيتان الكتل المهيمنة حالياً، وهي تدرك جيداً خطورة وجود مثل تلك الأحزاب عليها وعلى مصالحها المتورمة بعد الفتح الديمقراطي المبين، ولم يعد سراً امر سعيها المحموم للحفاظ على هيمنتها الحالية عبر التشكيلات والكتل المستندة الى ارث ما قبل الدولة الحديثة من تنظيمات وملاذات. لذلك لم يكن غريباً ان تأتلف قلوبهم في الموقف من هذه القضية، على نبذ أية محاولة أو مشروع لوضع واقرار قانون الاحزاب السياسية، لما يشكله من تعدي على حقوقهم وحصصهم في الوليمة الازلية. وهكذا اعيد ترميم السلطة الاولى على وفق الثوابت المجربة، ولن يمر وقت طويل حتى تلتحق بها بقية السلطات واكسسوارات «السلطة الرابعة» وذيولها الغليظة، لتتواصل حلقة الخواء في مضغ ما تبقى من كسرة اوهام ديمقراطية عن الاحزاب السياسية والاغلبيات والاقليات وبقية المفاهيم التي ضلت طريقها لهذه المستوطنة القديمة. مع مثل هذه التنظيمات الطائفية والعرقية والاسرية الضيقة، لا يمكن الحديث عن حكومة اغلبية سياسية، تتطلب وجود الاحزاب السياسية (غير الموجودة حالياً)، لذلك سيبقى ذلك من المشاريع المستقبلية لأجيال اخرى اقل تلوثاً باشعاعات «الهويات القاتلة». علينا امتلاك الجرأة والمسؤولية في تشريع القانون الخاص بالاحزاب والتنظيمات السياسية أولاً، وبعد ذلك التسلل الى ضفاف المفاهيم المرافقة له..