ما الذي يُقلق مالكي مفاتيح الجنة والنار؟

الشيخ محمد الشبستري*

ترجمة: الصباح الجديد

بعد أسابيع قليلة من خطبة أحد أساتذة الفلسفة في الحوزة العلمية بمدينة قم، والتي وصفَ فيها مفردة الحرية بـ(الصنم)، وضرورة إصدار فتوى لتحطيمها! وجد المجتمع الايراني نفسه في مواجهة صخب وتصعيد جديد. عدد من خطباء منابر الجمعة والبعض من مراجع التقليد في مدينة قم، من الذين يدعون امتلاكهم لمفاتيح الجنة والنار، ومعرفتهم لآليات فتح وغلق بواباتهما، لا يملون من توجيه التحذيرات للدولة كي لا تتكاسل في أمر تطبيق الشريعة عبر العنف، لأجل غلق أبواب جهنم أمام الشعب، وترك ابواب الجنة امامه مشرعة !!

ان عجاج هذا الضجيج الجديد تصاعد وترافق مع المواقف الشجاعة والمسؤولة لرئيس (دولة العقلاء) الشيخ حسن روحاني الاسبوع الماضي، عندما وضح بشكل لا يقبل اللبس والغموض احدى الحقائق الدينية والسياسية المهمة: ( لا تحشروا انفسكم بحياة الناس الخاصة بهذا الشكل، حتى بدوافع الحرص، دعوا الناس يختارون سبيل الجنة بانفسهم، لا يمكن سوقهم الى الجنة عبر العنف والسوط. والنبي (ص) لم يكن يحمل سوطاً، لقد كان بشيراً ونذيراً، ونحن ايضاً علينا ان نقتفي أثر ذلك السبيل، علينا جميعاً ان نبذل جهدنا من أجل استقرار وأمن المجتمع).

السؤال الذي يطرح نفسه عليَّ، وعلى غير القليل من المتابعين للمشهد المنحدر الينا من مناخات القرون الوسطى هو: هل حقاً ان ما يشغل مالكي مفاتيح الجنة والنار هؤلاء والمسكونين بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو ضياع الشريعة وخطر ابتلاع جهنم للناس وانغلاق ابواب الجنة بوجههم؟ وهل بالفعل هم منشغلون بأمر «المعروف» و «المنكر»؟ وما الذي يقبع خلف هذا العجاج الذي اثاروه؟!

في البدء لا بد من الاشارة الى ان طرحي لحزمة الاسئلة هذه هو من اجل الاسهام في إيجاد اجواء شفافة في حياة المجتمع السياسية والفكرية، والتي هي من أهم واجباتي الاخلاقية، ولأجل ذلك أدوّن الاسئلة التالية عسى ان تساعد في ذلك:

-1 اذا كان الأمر كما يقولون فعلاً، على سبيل المثال موضوع اللباس وسلوك النساء في الحياة العامة، ما الذي تقوله الشريعة وما متطلباتها؟ ولماذا يلزم هؤلاء المراجع وخطباء الجمعة الصمت حول أحد الكتب المهمة الذي يتضمن تحقيقاً مهماً للغاية (بقلم أمير تركاشوند) انتشر قبل سنوات بعنوان (الحجاب الشرعي في عصر النبي)؟ ولماذا لم تتم مناقشة وبحث ما تضمنه من معطيات مادية وتاريخية اشارت الى ان معنى الحجاب زمن النبي ليس مغايراً لما هو رائج اليوم وحسب بل بسبب من شروط الحياة آنذاك، وشظف العيش والفقر المفرط غير ممكن اصلاً، مثل هذا الطرح الحيوي لا يلتفت اليه في المحافل الحوزوية؟ لماذا لا يدعون انصار هذا الطرح للحوار والمناقشة العلنية العامة في الحوزة العلمية بمدينة قم، كي يقدموا ما توصلوا اليه لتتم مناقشتها وبحثها، وبالتالي استنباط الاحكام الشرعية المناسبة في باب الحجاب؟ الا يفترض بمن ملأ الاجواء صخباً وضجيجاً حول الحجاب، ان يلتفتوا قليلاً لما تضمنه هذا الكتاب القيم من معطيات واستدلالات هي اليوم أكثر غنى مما يتداول من مباحث فقهية في دروس الحوزة؟ الا يتطلب ذلك طبع ونشر الكتاب بدلاً من منعه والحجر عليه، للمساعدة في فهم الشريعة؟!

-2 الا يتطلب ذلك من اولئك الذين يدعون؛ ان من واجب الدولة الاستعانة بوسائل العنف لغلق ابواب جهنم وفتح ابواب الجنة، حتى ولو لمرة واحدة أن يسألوا انفسهم عما خلفته تجربة 35 عاماً من الاستعانة بوسائل العنف للسيطرة على آلية البوابات هذه، ونوع النتائج التي تمخض عنها والمشكلات التي تم حلها؟ 

الا يعلم هؤلاء، وطبقاً للارقام الدقيقة والتي يحظر نشرها، والقابعة تحت جلد الظواهر الدينية الرائجة في المجتمع بفعل ضغط اصوات التكبير والصلوات والروزخونيات واشاعة الخرافات من قبلهم، أي نوع من الفساد الواسع والعميق تسلل الى مفاصل المجتمع الحيوية؛ من ارتفاع حجم الادمان على المخدرات والكحول الى الامراض الجنسية وتداعياتها المدمرة اخلاقياً ونفسياً، وتفشي العنف الاسري وازدياد حالات الطلاق والجرائم المختلفة مع الفساد الاداري وتفشي الرشوة وفضائح الاختلاسات والسرقة من بيت المال و…؟ ألم يدركوا عقم وخطورة اصرارهم على التوسل بوسائل العنف لحفظ ايمان واخلاق الناس بعد كل هذه الاعوام التي انقضت مع مثل هذا المنهج، ألم يحن الوقت ان كانوا مهتمين فعلاً بامر سعادة الناس في العالم الآخر، كي يفكروا بسبل اخرى اكثر جدوى للتعاطي مع مثل هذه الهموم؟ الا تقع مسؤولية مثل هذا الفساد بالدرجة الاولى على عاتق المراجع ورجال الدين؟ الا يتعلق ذلك بضعف ادائهم لدورهم ومسؤولياتهم في اشاعة وترويج الثقافة الدينية والاخلاقية السليمة ونثر بذور الايمان، وكسب ثقة الناس بالدين والتدين، بدلا من استنزاف الامكانات الهائلة في سلسلة من الامور و»العلوم» السطحية والبعيدة عن حاجات المجتمع الواقعية.

-3ونتساءل عن العيوب الشديدة في حقول السياسة والاقتصاد، عن ملايين الشباب العاطلين عن العمل، والخراب المتعدد الاشكال الذي خلفته السياسة البعيدة عن العقل والاخلاق السياسية لحكومة الثماني سنوات التي مرت، وعن الاكاذيب التي روجتها عن خطر تصدع المعنويات والايمان والاخلاق وآليات فتح وغلق بوابات العالم الآخر، وهل ترك كل ذلك تأثيراً؟ ان ترك تأثيراً – وهو كبير بكل تأكيد- لماذا لم يكتفوا بالصمت حول كل تلك الخسائر والاضرار المادية والمعنوية بل احياناً وجهوا المدح والثناء والتأييد لما جرى؟ ان كانوا فعلاً مسكونين بمهمة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، افلا تعد اعمال التخريب الاقتصادي والسياسي داخل البلد وخارجه، والذي ارتكبته الحكومة السابقة، جزءاً من منظومة «الامر بالمعروف والنهي عن المنكر»؟ لماذا لم ينبس احد منهم ببنت شفة؟ وفي نهاية المطاف لم يتحمل أحد مسؤولية كل ما جرى من خراب في تلك المرحلة؟

-4من المعروف عن المرحوم آية الله منتظري انه قد عالج في أواخر حياته بصفته فقيهاً مسلماً؛ قضية حقوق الانسان وحقوق المواطنة بالنسبة للمذاهب غير الرسمية مثل البهائيين في ايران، حيث تطرق اليها بشكل جديد مستنبطاً منها حلولاً فقهية مبتكرة ومهمة جداً. فان كان هؤلاء السادة مهتمين بامر الشريعة، لِِمَ يلتزمون الصمت حيال تلك الاجتهادات القيمة لفقيه مسلم، يمكن ان تساعد على تقديم حلول لكثير من المعضلات الانسانية والسياسية للمجتمع، ولم يكلفوا انفسهم ببحثها في دروسهم الحوزوية؟ لماذا لم يدعوا اصحاب الشأن والاختصاص لمناقشة ذلك طبقاً للمعايير والتقاليد الفقهية المتبعة، المتداولة منها والحديثة، لنقد تلك الموارد أو اقرارها، لنصل الى الغايات المنشودة؟ وهل من الممكن الوصول الى تفسيرات جديدة من الشريعة حولها أم لا؟ ولماذا تعد الفتاوى المتشددة بنظرهم تعزيزاً وترسيخاً للشريعة، في حين الفتاوى التي تقرب بين عيال الله وتشق الطريق امام تقارب المجموعات السياسية، يتم الحجر عليها وطمرها؟ لماذا اقسم هؤلاء على عدم التقرب نهائياً من بحث قضية حقوق الانسان؟!

-5وما شرعية العنف الموجه اليوم ضد الفرق الصوفية والدراويش في مجتمعنا، من طرف الشريعة الرسمية لهؤلاء السادة، والصمت الذي اطبق عليهم جميعاً ازاء تلك الانتهاكات؟! واحياناً يؤدون دور مشعلي هذه الحرائق؟ وما شرعية اصرارهم على اعتقال وسجن استاذ جامعي كل ذنبه انه نشر تحقيقاً عن موضوع الامامة والمطالبة بغلق الصحيفة التي نشرته؟ 

-6وهل يعني هذا ان معنى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي جاء في القرآن المجيد، هو نفسه الذي اتبعه فقهاء القرون السالفة لتثبيت السلطة السياسية للخلفاء الامويين والعباسيين، والذي يقتفي اثره اليوم هؤلاء السادة؟ وهل حدث في عصر نبي الاسلام ان انبرى احد ما في الازقة للنساء وامسك بتلابيبهن موبخاً لهن عن نوع الملابس التي ارتدينها؟! وهل ارسل النبي مثل هؤلاء «المحتسبين» ذات يوم؟!

-7في بلد يمتلك دستوراً يتضمن كل القوانين التي تحدد تضاريس الحقوق والواجبات، ما موقع هذا الذي يلوح به هؤلاء عن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، من الاعراب؟! وهل غير التشبث للبقاء عبر الضغوط غير القانونية، والتي تتجسد بهذه الممارسات التي تندفع للساحة لمصلحة القوى المهيمنة.

-8يبدو ان جذور هذه الحساسية في موضوع لباس وسلوك المرأة في بلدنا، والدعوات لممارسة العنف في هذا المجال، نابع من ( السر المسكوت عنه)؛ ان مصير وشأن المرأة من اختصاص الرجال (سيادة الرجل) وفي مجتمعنا هذا هو الحصن الحصين للاستبداد السياسي والديني. و (سيادة الرجل) هذه يجب ان لا تخدش بأي شكل من الاشكال، حتى لا تتصدع قواعد الاستبداد. ومالكو مفاتيح الجنة والنار قلقون على امكانية زوال ذلك الاستبداد الديني والسياسي والمصالح المرتبطة بوجوده، لا شريعة الله وايمان الناس!

*رجل دين ومثقف كبير يعد اليوم من ابرز المفكرين الايرانيين في المشهد الثقافي والمعرفي الراهن، له العديد من المؤلفات وخاصة في مجال الهيرمونطيقيا، وقد ترجمت الكثير من كتاباته الى العربية..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة