احسان ناجي
سحب كرسياً من بين كراسي الطاولة الثلاثة، ويكاد يجلس، قال:
– هل أنت وحدك؟
جلس، وأظنه يتمعن بي. أقفلت الموبايل ونظرت إليه، فهرب بعينيه يجول المكان، ومازلت أتقصاه، لكنه عاد وبلا تركيز، قال:
– هل تنتظر أحداً، أرجو أن لا أكون أفسدت عليك الجلسة؟
حديقة نادي المصورين مزدحمة بروادها في مساء آذاري كان ينذر بعاصفة رملية، وتسمح لعبة «الدمبلة»(1) بملء الآخرين الغرباء لفراغ الكراسي في الطاولات.
بعد نحو نصف ساعة، وهو يقطر آخر ما تبقى من ربع العرق في كأسه، نظر الى كأسي الفارغة وعلبة البيره، وقال:
– أنت تشرب ببطء..
ثم أشار الى الموبايل الذي كنت أهتم به، وقال:
– ولو.. أنت منشغل بهذا. هل تعرف لماذا أشرب بسرعة؟
وجب عليّ أن أبدي استفهاماً من دون النظر إليه. يبدو أنه ثرثار، أو يريد إفراغ يومه على الطاولة.
أومأت له:
– لا؟
قال، وشعرت بحشرجة صوته:
– قلبي مفجوع..، قال ذلك بمرارة.
كان ينتظر مني ردة فعل، على ما كشفه، لكنني تظاهرت بالبحث عن سلة المهملات.
باشر:
– هذه نستله من النوع الفاخر..
– … لا تتفاهم مع البيره..
– كانت إبنتي الوحيدة تحبها.
* * * *
إعتقدت بأنه كان يتحدث الى نفسه في مكان ناءٍ:
– كنت ساعتها في المحل، ثم أكملت آخر ما في يدي بحدود الرابعة عصراً، ووجب عليّ أن أسند قلبي بوجبة من لحم مشوي وكأس شاي كبيرة في «الشيخ عمر»(2).
توقف عن حديثه لبرهة وهو يبحث عن الرقم الذي ذيع بيننا، ثم عاد: إي.. أنا أعمل «تورنجي» في الشيخ عمر.
ارتشف كامل كأسه، وأردف، ونفسه ترتجف.. وتنتفض:
– أخذت الحافلة إلى المدينة(3). بيتي في أول شارع الفلاح في المدينة. نزلت على بعد مسافة من الشارع؛ لدي حساب قديم عند العطار الذي يبعد محله عن بيتي مسافة مائة متر تقريباً. ابتعت علبتي سجائر وعصير.. ونستله. لم يبدُ شئ على صديقي صاحب المحل.
وكأنه يعصر قنينة العرق الزجاجية:
– كانت تحب النستله، حتى انني أسميتها «نستله» بدلاً عن «سجى». كان عمرها سنتين وتسعة أشهر.
توقف عن الحديث وهو يبحث عن رقم ضاع منه، فبدا لي صامداً.. هادئاً. وقلت في النفس: كذاب… أو يتحدث عن رؤيا منام، وربما هو يستدرجني لشئ ما.
– ثم؟..
– بقي الرقم 16، هل يفعلها الحظ؟
كنت أتمعن به كما لو أنني أريد لصق ظاهره على نفسه، لكن المهترئ تماماً، شاحب الوجه بثياب رثة يتناول الحديث قصاً مؤلماً.
استدرك:
– إي.. ثم غادرت المحل وقلبي بارد في أثناء كل شئ. دلفت أول القاطع المؤدي الى البيت. وقفت لدقائق. لم أكن أثق بخطواتي، كنت ثملاً، مع أن الدرب كانت منارة بأضواء مقدمات البيوت. مشيت خطوات.
توقف عن الكلام. ارتشف قليلاً من كأسه، ثم عاد:
– شعرت بأن مسماراً اخترق قلبي. مسكت قلبي. رأيت الناس يتجمعون أمام منزلنا…
قبض على جانب قلبه، وشعرت بأنه سينتزع قلبه من مكانه. كان يطلق الكلمات كما لو أنه يشد حجراً ضخماً من قرارة بئرٍ بخيط رفيع. جامد الوجه حائر العينين بدا عليه الوهن.
كنت أحاول مسك نفسي، وقد تركت كل ما تحت يدي ومازلت أصغي له..
قال، وهو يفرغ كأسه من قطع ثلج صغيرة أسفل الطاولة:
– لقد ثرثرت؟، هل ذيع الرقم 16؟..
* * * *
أسندت رأسي الى الكرسي، رميت النظر بعيداً، ورحت أخترق المشهد. تحاشيت وجهه. غدا يتحدث وكأنه يريد حل كلمات متقاطعة؛ إنه يحاول ربط الجمل فيما يبحث الارقام التي تذاع بيننا في النادي.
مد يده الى الكأس. كانت الكأس فارغة. قال:
– إي، هكذا نحن، لا ندري..»؟!
بدأت طبول ضغط الدم تقرع في صدغي، وقد تركني يبحث عن النادل لطلب قنينة ربع آخرى من العرق.
إلتفت إليّ وقال بمباشرة:
– على أية حال، لقد أفرغوا مجمدة المنزل من محتواها ووضعوها فيها، بانتظاري، لنهار كامل. وضعت قرب رأسها المهشم برصاصات ثلاث، نستله..
* * * *
بدت العاصفة الرملية تأخذ مخارج حروف راعي الأرقام:
– آخر رقم ذعته كان الرقم 7. رقم آخر.. 16 .. هذه آخر سحبة لهذا اليوم..
يضحك مجالسي:
– لقد ودعنا النجف، في آخر سحبة قتلى بالخطأ، ستة عشر. تخيل ذلك؟!
– …..؟!
– نعم، بعد الانفجار نقلوا ستين جريحاً الى مستشفى «الجوادر»(4)، أربعة وأربعون منهم نقلوا الى غير مكان. الرقم 16 كان من أبناء المدينة وجدوه في أحد أطرافها مردياً، في ظروف غامضة، فأضافوه الى العدد. الناس، بالرغم من انهم يعيشون في الموت لكنهم يفكرون.. نعم يفكرون بهامش ربح من وراء خسائرهم.. تعويضات.
لم يتبق في قنينة الماء غير رشفة كان وضعها في الكأس.. ويرفع الكأس محيياً الجلسة:
– نخب التعويضات..
يأخذ نفساً عميقاً، يراجع نفسه، وبابتسامة ساخرة حيث مازال رافعاً كأسه:
– نخب النستله..
* * * *
غادر الطاولة، وفاتورة حسابه عند النادل مفتوحة، لكنه سرعان ما رجع.. وقال:
– آسف نسيت هذه…
كان أخذ قطعة النستله..
(1) الدمبلة: لعبة مقامرة تشتهر بها أندية اجتماعية عريقة في بغداد.
(2) الشيخ عمر: حي وسط بغداد، صناعي على الأغلب.
(3) المدينة: نعت لمدينة الصدر ببغداد، أو مدينة الثورة سابقاً.
(4) الجوادر: بالجيم الفارسية، حي في مدينة الصدر ببغداد.